أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    04-Oct-2018

كيف يتشكل ‘‘زبائن‘‘ التنمية في المجتمعات المحلية؟

 الغد-أحمد أبو خليل

في الكلام على التنمية ومكافحة الفقر في بلدنا كما في سواه من البلدان المشابهة، توجد جملة شهيرة ذات إيحاء إيجابي هي: "التعاون مع ممثلي المجتمع المحلي". وهؤلاء الممثلون هم مجموعة من الرجال والنساء من أبناء المجتمعات المحلية المستهدفة بنشاط التنمية ومكافحة الفقر، يعتمدون كشركاء أو كوسطاء بين الجهة المشرفة وبين المجتمع المحلي.
مع مرور الوقت تميزت هذه المجموعات من المواطنين في مواقعها، واكتسبت مهارات تواصلية (بالاتجاهين: إلى أعلى وإلى أسفل)، وفي بعض الحالات تجري عمليات تدريب على التواصل والإدارة. وقد تحول نشاطهم ودورهم إلى ما يشبه "الطقس" أو "التقليد التنموي" الذي يعتمده المشهد العام. 
وفي كثير من الحالات يكون توفر مثل هذه المجموعات مطلبا أو شرطا من قبل الجهة المانحة او الممولة للمشروع. وفي المشاريع الكبرى، تطلب الجهة الممولة موافقات مكتوبة من المجتمع المحلي على إقامة المشروع، وذلك خشية أن يتخذ الأهالي موقفا مخاصما للمشروع بما قد يهدد مصيره.
يقوم أعضاء هذه المجموعات بأدوار هامة، أحياناً مقابل ما يشبه الأجر المالي أو المكافأة المباشرة او غير المباشرة، وفي أحيان أخرى قد يكتفي أعضاء هذه المجموعات بما ينالهم من وجاهة اجتماعية واعتراف بالمكانة.
أي نوع من الكلام تريد؟
في إحدى القرى النائية في البادية الشمالية الشرقية، كنت أحاور شخصية اجتماعية محلية بارزة، ولما كانت أسئلتي تطال بعض التفاصيل، اعتذر المتحدث عن مواصلة الكلام بسبب ضيق الوقت، فأبديت استعدادي للقدوم في الوقت المناسب له، فحدد لي يوماً بعيداً (على سبيل التعجيز)، غير أني وافقت وحضرت إليه في الساعة التي حددها، وواصلت أسئلتي إلى أن صارحني بسؤال مفاجئ هو: "قل لي من فضلك، أي نوع من الكلام تريد؟ هل تريد كلاما من الذي نقوله بحضور مندوبي الجهات الممولة الأجنبية؟ أم كلاما من الذي نتحدث به بحضور المسؤول المحلي فقط؟ أم تريد كلاما "بالبلدي"؟ فاخترت الصنف الأخير، أي الكلام "البلدي" بمعنى الصريح والحقيقي، فاعتدل الرجل في جلسته وحدثني كلاما واضحاً عن المشاريع وإدارتها وجدواها إن كان لها جدوى، ثم أوضح لي إن مسؤولي العاصمة كثيرا ما يتصلون به ويبلغونه بزيارة مرتقبة وأن عليه أن يجهز الكلام المناسب للضيف المناسب.
في إحدى التجمعات السكانية في منطقة الرويشد أقصى شرق المملكة، وهي واحدة من جيوب الفقر المزمنة، وتنافس على المرتبة الأولى في نسب الفقر على المستوى الوطني، شرحت لي إحدى السيدات ببساطة وسلاسة طريقة التواصل مع الجهات المنفذة لمشاريع مكافحة الفقر وقالت: يتصلون بنا ويبلغونا بقدوم زائر للمنطقة يريد الاجتماع بالأهالي والاستماع إليهم، ثم يعقدون لنا اجتماعاً مسبقا (يشبه البروفة)، ويجري تحديد الأسئلة والأجوبة، وفي اليوم المحدد نحضر ويزودوا كلا منا بوجبة "مبكّتة" (داخل باكيت) ومبلغ ثلاثة دنانير كأجور مواصلات. (لكن السيدة أكدت لي انها تحضر مشيا على الأقدام فتوفر الدنانير الثلاثة لأسرتها)!! 
ائتلاف المؤسسات المحلية
في بعض المناطق تجري الأمور بشكل أكثر تنظيما متجاوزة الإطار الفردي، إذ يتم التواصل مع الجمعيات والهيئات الموجودة واحيانا يطلب من الأهالي تشكيل جمعيات تعاونية او خيرية، على أن توضع لها أهداف تناسب المشاريع المتوقعة، وتجري على عجل تأسيس جمعيات من الأقارب أو الأصدقاء في العادة، بما يضمن القدر المناسب من التكتم، ومن ضبط توزيع المكاسب وخاصة في حالة وجود تمويل.
في حالات أخرى تطلب الجهات المشرفة في العاصمة من مؤسسات المجتمع المحلي تشكيل ائتلافات فيما بينها لتنسيق العمل، وفي هذه الحالات يجري ضمان قبول ورضى وسكوت ممثلي مختلف الأطراف المحلية. وفي كل الأحوال يكون الهدف ضبط جودة التقارير والفواتير والحسابات وتقدير النتائج.
مثل هذه الطريقة تضمن (في حالة فشل المشروع) تحميل المسؤولية للمجتمع المحلي أسباب ذلك الفشل، وهو ما يعني وفق منهج المركز في العاصمة، إعادة المحاولة في مشاريع أخرى، ذلك ان المجتمع المحلي اكتسب خبرة جديدة مما يقلل احتمال تكرار الفشل في المرة القادمة.
لهذا فإن الوثائق المتوفرة في المركز قد تحوي قصصا عن مشاريع لا وجود لها في الواقع، ومع ذلك فإن الوثائق ذاتها  تتضمن تقارير مصادقا عليها من ممثلي المجتمع المحلي، بما يرضي جميع الأطراف!
قصص النجاح
لعل فكرة "قصص النجاح" من أكثر الأفكار التي تعرضت للانتهاك في خطاب التنمية والفقر في الأردن. في أفضل الحالات، فإن قصص النجاح الحقيقية نادرا ما تكون ذات صلة بالبرنامج المعلن، ويكون عرض القصص أقرب إلى اتفاق بين صاحب أو صاحبة القصة الناجحة فعلاً مع الطرف المشرف، بمقتضاه يقبل صاحب القصة أن يُحسب نجاحه جزئيا او كليا لمصلحة الجهة المشرفة على أن يتلقى صاحب القصة الدعم المالي أو غير المالي، ولهذا فإن كثيرا من أصحاب قصص النجاح التي تُعرض في المؤتمرات والاحتفالات والفنادق يميلون إلى التكتم خارج المشهد المعد مسبقاً خشية الوقوع في خطأ كشف الحقيقة، ولعل الجهات المشتغلة بالتمويل الصغير برعت في هذا المجال.
لكن المحزن في الأمر، أن المجتمع المحلي الذي يشهد في الواقع الكثير من المبادرات والقصص الحقيقية، يندر أن يجد له منفذا إلى مشهد إدارة الفقر والتنمية الرسمي، إلا في الحالات التي تستخدم فيها تلك المبادرات والقصص كنوع من "الإضافات" ذات الطابع الاحتفالي. 
إن مشهد التواصل مع المجتمعات المحلية يبدو معاكسا لما هو مطلوب جدي و تنموي، إذ تبلغ ثقة مؤسسات المركز في العاصمة بنفسها مستويات عالية بحيث لا تقبل إلا بالصيغ المعدة مركزيا في مكاتبها، وهو ما يحرمها ويحرم المجتمع المستهدف نفسه من امكانية الاستفادة من التجارب الذاتية للسكان. إن الفقر بالنسبة للفقراء هو مسألة بقاء واستمرار، ولهذا فإن على المخطط وصاحب القرار أن يسعى للتعرف على الاستراتيجيات الذاتية لهؤلاء الفقراء وأن يبني عليها بالاتفاق مع اصحابها ولكن باحترام للنماذج والأفكار التي صنعوها بأنفسهم، والتخلي عن الفكرة المصممة مكتبياً، أو على الأقل القبول بأنها مطروحة للنقاش.
إن المنهج المتبع وهو الذي قاد إلى نشوء نخب محلية مزيفة تتقن التواصل مع المركز وفق المتطلبات الرسمية، وتتقن في الوقت ذاته التمويه على المجتمع المحلي الذي تنتمي إليه، وهذا ما يفسر جانبا من المفارقة التي نعيشها بين ما هو في الورق وما هو في الواقع.