أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    11-Mar-2017

مصنع النسيج*ابراهيم غرايبة

الغد-بكى عيسو أكثر يوم في حياته عندما ذهب بصفته رئيس جمعية خيرية لاستلام جثة من المستشفى لم يتعرف أحد على صاحبها. كان رجلا يبيع المناديل الورقية عند إحدى الإشارات الضوئية في المدينة، ودعسته شاحنة اقتحمت المربع الذي يقف فيه. وقد نقله عيسو بسيارة الجمعية إلى المقبرة، وصلى عليه مع ثلاثة عمال، ومكث بجوار قبره يبكي ساعات طويلة.
يتذكره عيسو عندما كان يلتقيه وهو يعمل في مصنع النسيج الأكثر أهمية وشهرة في المدينة لأجل تلقي التبرعات للجمعية. كان أهم شخص في المصنع؛ يتقرب منه ويعرفه جميع المشتغلين بالسياسة والعمل الاجتماعي والإعلامي. لقد تلقى تقديرات وشهادات عدة، وسافر إلى جميع دول العالم يتعرف على أسواقها ومصانعها. وكان يلتقيه المدير العام كل يوم مرتين على الأقل، ويعامله جميع المديرين وأعضاء مجلس الإدارة باحترام وتقدير. كان يحيّره كيف يكون أهم من المهندسين والفنيين وسائر العاملين الذين يتوقف المصنع من دونهم، ولكنه تقبل ذلك بسرعة. يستقبل كل يوم أعضاء في البرلمان وقادة المجتمع والشركات ومندوبي الصحافة ووسائل الإعلام، ويعرض بمهارة فائقة مرافق المصنع ومنتجاته، ويستضيفهم في الفنادق ويقدم لهم الهدايا والتذكارات، ويزودهم أيضا بالتقارير والأخبار والمقابلات جاهزة للنشر والبث.
وهناك أيضا ما كان يشجعه على الأداء المتقدم؛ مبنى المصنع جميل وأنيق، بواجهات زجاجية مدهشة، وقاعات مكيفة وجميلة، وضيافة سخية، وواجهات أنيقة تعرض منتجات المصنع التي حفظها جميعا وعرضها للضيوف بإتقان وكفاءة، ومواقف سيارات وحديقة جميلة مترفة... والعمل مثل خلية نحل صامتة.
ذات يوم بعد عشر سنوات من العمل والمجد، عرف أنه لا يوجد مصنع في الواقع. ليس هناك إلا مستودعات ضخمة مليئة بالملابس والأقمشة المستوردة من الصين؛ فلم يكن المصنع سوى وكالة استيراد ومستودعات هائلة تستقبل الملابس والسلع بالمواصفات والعلامات والأسماء والشعارات المعدّة لتبدو وكأنها صناعة وطنية تقدم في الأسواق والمؤسسات. الملابس الموحدة والجميلة في المدارس والمستشفيات والمصانع، والعلامات التجارية في الأسواق للملابس والأقمشة والستائر، لم يكن يُنتج منها في البلاد سوى تصميمها المنسوخ من الحاسوب لتوضع عليه علامات وأسماء! ولم يكن المشهد الذي يقدمه للزوار والضيوف والزبائن سوى عرض مسرحي أنيق متقن؛ مكائن تقدم نموذجا يحاكي العمل وتحرك الخيوط ثم تعيد تفكيكها في نهاية المسار وتعيد نسجها وغزلها... هكذا بلا انتهاء أو توقف. لم يكن عمله ومجده سوى تطبيق حاسوبي بـ"فوتوشوب"!
صدمته الكبرى كانت عندما اكتشف أنه الممثل الوحيد في المسرحية من غير أن يدرك، وأنه وحده الذي لا يعرف ذلك؛ العمال والمهندسون والمحاسبون والسكرتيرات وعمال النظافة والمسؤولون السياسيون ونواب البرلمان ومندوبو الشركات والمؤسسات التي تشتري من المصنع... كلهم يعرفون، لكنهم جميعا كانوا يبدون دهشة عظيمة وانبهارا بالأداء والاتقان، ويبذلون حماسة وولاء كبيرين للعمل والمصنع، ويضيفون إلى ذلك انتماء وطنيا، فيتحدثون بحماسة فائضة وصدق عن الأوطان والصناعة الوطنية، كلما تحدث مع أحد يجده يعرف، ثم يلومه على أنه يلحق الأذى بالبلد والاقتصاد الوطني والعمل العام والتطوعي والأندية والجمعيات التي تتلقى التبرعات من المصنع. هكذا تحول من الموظف المثالي في المصنع إلى مخرِّب وكاره للعمل والإنجاز... وطابور خامس.
في أحد الأيام عندما جاء إلى عمله في الصباح، وجد أن بطاقته لا تسمح له بالدخول، ولم يلتفت إليه أحد من العمال والحراس، ولم يجب أحد من المديرين والموظفين على هاتفه، ولم يستقبله أحد من كل الذين عرفهم من المتعاملين مع المصنع أو الأصدقاء، كما لم يستطع أن يجد عملا بديلا. كان يلوح بأكياس المناديل الورقية بجوار الإشارات الضوئية مدركا أنه لا يملك فرصة سوى الموت! لوّح بذراعه لسائق الشاحنة كأنه يدعوه برجاء... ومات شاكرا له أنه لبى دعوته!