نقلة نوعية بالأداء.. هل يتحول ديوان المحاسبة لأداة تصويب حقيقية؟
الغد-إيمان الفارس
لم يعد تقرير ديوان المحاسبة مجرد وثيقة سنوية ترصد المخالفات وتسجل الملاحظات، بل بات مؤشراً واضحاً على تحول أعمق في فلسفة الرقابة المالية والإدارية.
فالتقرير الجديد، بما حمله من أدوات مختلفة في الشكل والمضمون، أعاد فتح النقاش حول مدى قدرة الرقابة الرسمية على الانتقال من التشخيص إلى المعالجة، ومن تسجيل الخلل إلى فرض المساءلة، في لحظة تبدو فيها حماية المال العام أولوية وطنية ملحة.
وعكس تقرير ديوان المحاسبة الجديد تحولاً حقيقياً في فلسفة الرقابة، وانتقل بها خطوة نحو الفعل التنفيذي، إلا أن استدامة هذا التحول، بحسب تصريحات خبراء في القانون الإداري لـ"الغد"، بقيت رهناً بمدى تفعيل الأدوار المؤسسية، وتعميق التنسيق الرقابي، وتحقيق التوازن بين نصوص القانون وواقع الإدارة، بما يجعل من الرقابة أداة تصويب فعلي لا مجرد سجل أخطاء مؤجل.
وأشارت تحليلات المختصين إلى أن ديوان المحاسبة، بوصفه رأس منظومة الرقابة المالية، شهد تطوراً لافتاً في آليات عمله بما انسجم مع المعايير الدولية المعتمدة في الرقابة السابقة واللاحقة.
ومن أبرز ملامح هذا التحول، وفق قراءات قانونية متخصصة، إدراج جداول زمنية ملزمة لتنفيذ التوصيات والملاحظات الواردة في التقرير، إذ مثلت هذه الخطوة قطيعة مع نهج ترحيل الأزمات المالية الذي عانت منه الإدارة العامة لسنوات طويلة، وأسهمت في كسر حلقة التسويف التي أضعفت سابقاً الأثر العملي للتقارير الرقابية، وحولت كثيراً من الملاحظات إلى أعباء مؤجلة بلا حلول.
تحول في المنهجية
وفي إطار النقاش القانوني المتصاعد حول تطوير أدوات الرقابة المالية وتعزيز فاعليتها، برز تقرير ديوان المحاسبة الجديد كأحد أبرز المؤشرات على التحول في منهجية المساءلة الإدارية، وهو ما تناوله أستاذ القانون الدولي د. طلال الشرفات من زاوية قانونية تحليلية.
وأكد الشرفات أن ديوان المحاسبة، باعتباره رأس الرقابة المالية في الدولة الأردنية، اضطلع بدور محوري بالغ الأهمية في حماية المال العام، لافتاً إلى أن الإجراءات التي قام بها شهدت تطوراً ملحوظاً بما انسجم مع المعايير العالمية المعتمدة في مجالي الرقابة السابقة والرقابة اللاحقة، وهو ما عكس توجهاً مؤسسياً نحو تعزيز كفاءة العمل الرقابي ومهنيته.
وقال الشرفات إن التحول في شكل التقرير الجديد لديوان المحاسبة، ولا سيما إدراج جداول زمنية محددة لتنفيذ التوصيات والملاحظات الرقابية، شكل خطوة إيجابية ومهمة في مسار إصلاح الرقابة المالية، لافتاً إلى أن الإدارة الأردنية عانت لعقود طويلة من ظاهرة ترحيل الأزمات والملاحظات المالية دون معالجة جذرية، الأمر الذي أضعف الأثر الفعلي للتقارير الرقابية في مراحل سابقة.
وأضاف أن تحديد مدد زمنية ملزمة لتنفيذ ملاحظات ديوان المحاسبة أسهم في تعزيز الرقابة على المال العام، وساعد في نقل التقرير من إطار التوصيف والرصد إلى إطار المتابعة والتنفيذ، بما انعكس إيجاباً على نسب الاستجابة من الجهات الخاضعة للرقابة، وكرّس مبدأ الجدية في التعامل مع الملاحظات المالية.
وفي هذا السياق، بيّن أستاذ القانون الدولي أن فاعلية هذا التحول ظلت مرهونة بملاحظتين أساسيتين؛ الأولى تمثلت في ضرورة اضطلاع مجلس النواب بدوره الرقابي الكامل، من خلال ممارسة الضغط السياسي والدستوري على الحكومة لتنفيذ الملاحظات المالية الواردة في تقارير ديوان المحاسبة، وعدم الاكتفاء بمناقشتها دون متابعة نتائجها التنفيذية.
وتابع بأن الملاحظة الثانية تعلقت بضرورة قيام ديوان المحاسبة بالتمييز بوضوح بين الملاحظات المالية العادية، وتلك التي ترقى إلى مستوى الجريمة أو التي يمكن أن تندرج ضمن الأفعال التي تمس حرمة المال العام، مشدداً على أهمية إعطاء الأولوية للمسائل الجدية والخطيرة التي تؤثر بشكل جوهري على المالية العامة، والبحث المعمق في القضايا ذات الأثر المالي الكبير.
وأكد الشرفات أن الإجراءات المتخذة في المرحلة الأخيرة عكست وجود خطوات إيجابية ملموسة في مجال الرقابة المالية، مشيراً إلى أن التعاون بين المؤسسات الرقابية شكل عنصراً أساسياً في إنجاح أي منظومة مساءلة إدارية فاعلة، وأكد ضرورة الركون إلى جوهر القوانين وليس الاكتفاء بشكلها، إضافة إلى تطوير الإجراءات داخل الإدارة العامة، وكلها عوامل تصب في اتجاه حماية المال العام.
ولفت إلى أن الإدارة العامة أصبحت ملزمة بأخذ ملاحظات ديوان المحاسبة بعين الاعتبار، غير أنه شدد في الوقت ذاته على أن ليس كل ما يورده الديوان يعكس بالضرورة الواقع المالي الفعلي، وأن ليس كل ملاحظة تعني وجود خلل إداري، موضحاً أن بعض الملاحظات قد تصدر أحياناً عن قراءة متسرعة أو عن تفسير جامد للنص القانوني دون مراعاة للواقع العملي والتطبيقي على أرض الواقع.
ورأى الشرفات أن مسار تطوير العمل الرقابي سار بشكل إيجابي إلى حد ما، لكنه ما يزال بحاجة إلى مزيد من تفعيل الدور الرقابي في جميع المؤسسات ذات العلاقة، مؤكداً أن التنسيق والتعاون بين مجلس النواب، وهيئة النزاهة ومكافحة الفساد، والسلطة القضائية، ومؤسسات المواصفات والمقاييس، وكافة الجهات الرقابية، شكل الحل الأمثل لتعزيز المساءلة الإدارية، وحماية المال العام، وترسيخ الثقة العامة في مؤسسات الدولة.
الاستناد للإطار القانوني
من جانبه، أكد رئيس المحكمة الإدارية السابق في الجامعة العربية د. جهاد العتيبي، أن تقييم التحول في شكل ومحتوى تقرير ديوان المحاسبة استند بالضرورة إلى الإطار القانوني الناظم لاختصاصات الديوان كما ورد في قانون ديوان المحاسبة رقم 28 لسنة 1952 وتعديلاته، والذي منح الديوان ولاية رقابية شاملة لم تقتصر على التدقيق المالي، بل امتدت إلى سلامة القرارات والإجراءات الإدارية ومدى توافقها مع التشريعات النافذة.
وقال العتيبي إن القانون حدد مهام ديوان المحاسبة بصورة واضحة، حيث تولى مراقبة واردات الدولة ونفقاتها، وحسابات الأمانات والسلفات والقروض والتسويات والمستودعات، إضافة إلى تقديم المشورة في المجالات المحاسبية للجهات الخاضعة لرقابته، ومارس رقابة على الأموال العامة للتحقق من إنفاقها بصورة قانونية وفاعلة، كما تحقق من سلامة تطبيق التشريعات البيئية، والتثبت من أن القرارات والإجراءات الإدارية في الجهات الخاضعة لرقابته تمت وفقًا لأحكام القوانين والأنظمة النافذة.
وأضاف أن رقابة ديوان المحاسبة شملت الوزارات والدوائر الحكومية والمؤسسات الرسمية العامة والمؤسسات العامة والمجالس البلدية والقروية ومجالس الخدمات المشتركة، إضافة إلى أي جهة قرر مجلس الوزراء تكليف الديوان بتدقيق حساباتها، الأمر الذي منح التقارير الصادرة عنه قيمة قانونية وإدارية عالية، وجعل مخرجاتها قابلة للتحول إلى أدوات مساءلة فعلية متى اقترنت بآليات تنفيذ ملزمة.
وأشار إلى أن مسؤولية ديوان المحاسبة فيما يتعلق بالواردات، شملت التدقيق في تحققات الضرائب والرسوم والعوائد المختلفة، والتحقق من أن تقديرها وتحقيقها تمّا وفقًا للقوانين والأنظمة المعمول بها.
وذلك إلى جانب تدقيق معاملات بيوع الأراضي والعقارات الأميرية وتفويضها وتأجيرها، والتثبت من أن تحصيل الواردات جرى في أوقاته المحددة، وأن قانون جباية الأموال العامة طُبّق بحق المتخلفين عن الدفع، فضلًا عن التحقق من عدم إجراء أي شطب أو إعفاء إلا في الحالات التي نصت عليها التشريعات النافذة.
وفيما يخص النفقات، أوضح العتيبي أن القانون حمّل الديوان مسؤولية التدقيق في النفقات للتحقق من صرفها للأغراض التي خصصت لها، والتثبت من أن الصرف تم وفقًا للقوانين والأنظمة، إضافة إلى مراجعة المستندات المؤيدة للصرف والتحقق من صحتها، والتأكد من صدور أوامر الصرف من الجهات المختصة، وعدم تجاوز المخصصات المرصودة في الميزانية إلا بعد الترخيص بذلك، فضلًا عن التثبت من أسباب عدم صرف بعض المخصصات، ومن تنفيذ أحكام قانون الميزانية العامة وملاحقها.
وبيّن أن المشرع منح رئيس ديوان المحاسبة وموظفيه المفوضين صلاحيات واسعة، حيث تمكنوا من التدقيق في أي وقت، وتعداد النقد والطوابع والوثائق واللوازم، والاطلاع على جميع السجلات والمستندات، والاتصال المباشر بالموظفين المختصين، وهو ما عزز قدرة الديوان على ممارسة رقابة فعالة تتجاوز الطابع الشكلي أو اللاحق.
وفي هذا السياق، أوضح العتيبي أن إدراج توصيات زمنية ملزمة في تقرير ديوان المحاسبة الجديد، وارتفاع نسب استجابة الجهات الخاضعة للرقابة، عكس تحولًا جوهريًا في فلسفة العمل الرقابي، حيث لم يعد التقرير مقتصرًا على رصد المخالفات، بل تحول إلى أداة مساءلة قانونية استندت إلى نصوص واضحة ألزمت الجهات المعنية بالرد خلال مدد محددة.
وأكد العتيبي أن إلزام الجهات الخاضعة للرقابة بالإجابة عن استيضاحات الديوان خلال مدد زمنية محددة، وربط ذلك بالمسؤولية القانونية والجزائية والتأديبية، أسهم في تحويل التقرير من وثيقة رقابية توصيفية إلى أداة تنفيذية قابلة للتطبيق، وعزز من جدية التوصيات الواردة فيه.
وأشار إلى أن التقرير السنوي الذي قدمه رئيس ديوان المحاسبة إلى مجلسي الأعيان والنواب، وتضمن الملاحظات والمخالفات والمسؤوليات المترتبة عليها، شكّل ركيزة أساسية للرقابة البرلمانية، لا سيما مع نشره رسميًا وإتاحته للرأي العام، بما كرس مبادئ الشفافية وربط الرقابة بالمحاسبة.
وخلص إلى أن التحول في شكل ومحتوى تقرير ديوان المحاسبة، وخاصة تقرير العام 2024، جسد توجهًا واضحًا نحو تحويل المخرجات الرقابية إلى إجراءات تنفيذية ملموسة، وأسهم في تعزيز فاعلية المساءلة الإدارية، بما ينسجم مع مبادئ القانون الإداري الحديث، ورسخ دور الديوان كأداة تصويب مؤسسي للأداء العام، لا مجرد جهة ترصد المخالفات بعد وقوعها.
نقلة نوعية
وفي هذا السياق التحليلي أيضاً، أكد أستاذ القانون الإداري د. محمد معاقبة، أن التحوّل في شكل ومحتوى تقرير ديوان المحاسبة الجديد، أمكن فهمه بوصفه نقلة نوعية في فلسفة الرقابة الإدارية.
وقال معاقبة إن التقرير لم يعد يندرج ضمن إطار الرقابة التوصيفية التقليدية، بل انتقل إلى نموذج رقابي وظيفي ذي أثر تنفيذي ملموس، مضيفاً أن إدراج توصيات مقترنة بمدد زمنية محددة لم يعكس مجرد تطور شكلي في الصياغة، بل أسَّس لمنطق قانوني جديد قام على ربط المسؤولية الإدارية بعنصر الزمن، باعتباره عنصراً جوهرياً في تقييم مشروعية الأداء الإداري وقياس مدى فعاليته.
ومن زاوية قانونية أعمق، أوضح معاقبة أن التوصيات المقيّدة بإطار زمني اقتربت في طبيعتها من مفهوم "الالتزام الإداري الموجَّه"، حتى وإن لم تصل إلى مرتبة القرار الإداري المُلزِم بالمعنى الفني الدقيق.
وأشار أستاذ القانون الإداري إلى أن هذا النوع من التوصيات أنشأ قرينة قانونية قوية على علم الجهة الإدارية بوجود المخالفة أو الخلل، وحدّد في الوقت ذاته مهلة واضحة للتصويب والمعالجة، الأمر الذي عزّز إمكانية مساءلة الإدارة لاحقاً في حال التقاعس أو التأخير غير المبرر، وبذلك انتقل تقرير ديوان المحاسبة من كونه أداة كشف ورصد إلى أداة ضغط قانوني وأخلاقي مُنظَّم.
وفي امتداد لهذا التحليل، لفت إلى أن ارتفاع نسب الاستجابة لتوصيات الديوان عكس تطوراً ملحوظاً في الثقافة الإدارية السائدة، إذ باتت الجهات الخاضعة للرقابة تدرك أن مخرجات ديوان المحاسبة لم تعد مجرد ملاحظات إجرائية حُفظت في الأرشيف، بل مؤشرات أداء خضعت للمتابعة والتقييم.
وأكّد معاقبة أن هذا الإدراك المتنامي ترتّب عليه احتمال تقييم لاحق للمسؤولية الإدارية، وربما السياسية، وهو ما عزّز مبدأ "الإدارة المسؤولة" بوصفه أحد الأعمدة الأساسية للقانون الإداري الحديث.
وعلى صعيد فاعلية منظومة المساءلة، أوضح أن هذا التحول النوعي ساهم في تضييق الفجوة التقليدية بين الرقابة والتنفيذ، وهي الفجوة التي لطالما أضعفت الأثر العملي للتقارير الرقابية.
وبيّن أنه عندما تحولت الملاحظات الرقابية إلى توصيات محددة زمنياً، وتم قياس مستوى الاستجابة لها، أصبح من الممكن تتبع المسار الكامل للمساءلة، بدءاً من اكتشاف الخلل، مروراً باقتراح المعالجة، ثم مراقبة التنفيذ، وصولاً إلى تقييم النتائج النهائية.
وشدّد معاقبة على أن التقرير الجديد كرّس فهماً متقدماً لمفهوم الرقابة، باعتبارها لم تكن غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لإصلاح الأداء الإداري وتحسين جودة القرار العام.
وأضاف: إنه إذا ما جرى استكمال هذا النهج من خلال تكامل أوثق مع السلطتين التشريعية والتنفيذية، فإن ذلك كان سيقود إلى نموذج رقابي قادر على تحويل المخرجات الرقابية إلى إجراءات تنفيذية ملموسة، بما أسهم في ترسيخ سيادة القانون وتعزيز الثقة في الإدارة العامة.