عمون
صالح سليم الحموري
في عالمنا الرقمي المتسارع، لم يعد المواطنون بحاجة إلى علاقات شخصية أو "واسطات" لتسهيل معاملاتهم الحكومية، حيث كان يُقال سابقًا "الحكومة في جيبته". اليوم، بفضل التطور التكنولوجي الهائل، أصبح بإمكان المواطنين الوصول إلى جميع الخدمات الحكومية التي يحتاجونها بسهولة من خلال خطوات بسيطة فقط. هذا التقدم يعكس نجاح مجموعة من الحكومات في تحويل عملياتها وإجراءاتها إلى أنظمة رقمية سلسة، مما يُسهم في تصفير البيروقراطية وتقديم الخدمات عبر منصات مبتكرة، مما يجعل مفهوم "الحكومة في جيبك" حقيقة واقعة.
تتجلى هذه الرؤية في دول رائدة مثل الإمارات وسنغافورة وإستونيا، حيث أصبحت البنية التحتية الرقمية للحكومة حجر الزاوية في تقديم خدمات متقدمة تركز على الإنسان. لم تكتفِ هذه الحكومات بتحويل خدماتها إلى نماذج رقمية فحسب، بل نجحت في تصميم هذه الخدمات لتكون استباقية وفورية، ومبنية على أحداث الحياة، أي أنها تتوقع احتياجات المواطنين وتقدم لهم الحلول قبل أن يحتاجوا حتى إلى طلبها.
في الإمارات، على سبيل المثال، يمكن للمواطنين الوصول إلى خدمات حكومية متعددة من خلال تطبيقات ذكية مثل "DubaiNow"، الذي يجمع تحت مظلته أكثر من 120 خدمة حكومية، من دفع الفواتير إلى تجديد الرخصة، وكل ذلك في واجهة مستخدم واحدة بسيطة وسهلة. هذا النهج لا يكتفي بتسهيل حياة المواطنين فحسب، بل يعزز من تجربة المستخدم ويرفع مستوى رضاهم عن الخدمات المقدمة.
من ناحية أخرى، تأتي تجربة سنغافورة لتبرز كيف يمكن للحكومة أن تتعاون مع القطاع الخاص لتقديم خدمات متكاملة وشاملة. من خلال استراتيجية "الحكومة كمنصة"، أتيحت للبلديات وشركات القطاع الخاص الفرصة لنشر خدماتها وجعلها في متناول المواطنين عبر منصات حكومية رقمية. هذا التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص لا يسهل فقط عملية تقديم الخدمات، بل يخلق سوقًا للخدمات المتنوعة التي تلبي احتياجات المواطنين بطريقة سلسة وفعالة.
إستونيا، الدولة الرائدة في الحكومة الرقمية، تقدم نموذجًا آخر متميزًا حيث يتمتع المواطنون برؤية واحدة وشاملة لجميع شؤونهم المالية مع الحكومة.
فالمواطن يرى بشكل دقيق ما تساهم به الحكومة في رفاهيته، والعكس صحيح، مما يعزز الشفافية ويبني الثقة بين الحكومة والمواطنين. إضافة إلى ذلك، تضمن إستونيا حماية عالية للبيانات الشخصية، حيث يمكن للمواطنين التحكم الكامل في بياناتهم ومعرفة كيفية استخدامها، مما يعزز من شعورهم بالأمان والثقة في النظام الرقمي.
ومن خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن للحكومات أن تتجاوز مجرد تقديم الخدمات التقليدية، لتصل إلى أتمتة الدعم واكتشاف الخدمة المطلوبة. ففي كثير من الأحيان، تكمن المشكلة في معرفة أي جهة حكومية يجب على المواطن التوجه إليها لحل مشكلته. يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل المشكلة تلقائيًا وتوجيه المواطن إلى السلطة المختصة، أو حتى الإبلاغ عن المشكلة مباشرة للجهة المعنية دون تدخل المواطن.
إن "الحكومة في جيبك" ليست مجرد شعار، بل هي نموذج حكومي جديد يعتمد على "التكنولوجيا "و"الثقة" كأولويات، لتحقيق تجربة متعاملين مثلى.
الحكومات التي تتبنى هذا النهج، مثل الإمارات وسنغافورة وإستونيا، لا تقدم خدمات رقمية فحسب، بل تُعيد تعريف "العلاقة بين الحكومة والمواطن"، حيث تصبح الحكومة "شريكًا" فعليًا في حياة مواطنيها، وتعمل على سعادتهم ورفاهيتهم. من خلال الدعم المستمر والخدمات المقدمة بشفافية وكفاءة غير مسبوقة، تتجسد "الحكومة في جيبك" كواقع جديد يغير معالم العلاقة بين المواطن والدولة و"يصفر البيروقراطية" في تقديم الخدمات الحكومية. فهل يوجد في جيبك "حكومة"؟.
* صالح سليم الحموري/ خبير التدريب والتطوير /كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية.