أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    14-Jan-2018

مستجدات جغرافيا الفقر والتهميش في وسط عمان

 الغد-أحمد أبو خليل

يتناول هذا التقرير ما يمكن اعتباره أحدث سوق للفقراء والمهمشين في العاصمة، ولعله أبرز مستجد في "الاقتصاد الشعبي" في عمان، وإذا كان الفقر وأسواقه جزءا من ظاهرة فشل تنموي، فإن التقرير بالإضافة إلى ذلك، سيضيء على هذا السوق باعتباره يمثل مبادرة ذاتية من قبل الفقراء لمواجهة فقرهم. 
وسوف نرى أنه (السوق) قد يشكل بداية لظاهرة جديدة تتمثل بنشوء "شرق وغرب" خاصّين بوسط عمان تحديدا، سوف يضافان إلى الشرق والغرب "التقليديين" المعروفين على المستوى الكلي للعاصمة.
مختصر السيرة الاقتصادية للمكان
نستميح القارئ عذرا، فقد يكون مفيدا التذكير وبشكل مختصر ببعض جوانب من السيرة العمرانية لوسط العاصمة عمان: 
• فلغاية 15 عاما مضت، كنا إذا سمعنا عبارة "وسط عمان"، فإن الذهن يتجه إلى المنطقة الممتدة من مجمع رغدان القديم (السياحي حاليا وفق التسمية الرسمية)، وصولا إلى رأس العين أو "آخر سقف السيل". وكان هذا المكان الممتد لحوالي 2 كلم، مكتظا بالنشاط التجاري الرسمي وغير الرسمي (البسطات والبيع على الرصيف)، وقد تشكلت هويته كمركز تجاري، عبر حوالي قرن كامل من تاريخ عمان المعاصر.
• كان ما يعرف بـ"الجورة" وهي مساحة من عدة دونمات تقع في آخر سقف السيل، موقعا لواحد من أقدم أسواق الفقراء، وقد تخصصت الجورة لزمن بالملابس المستعملة "البالة". وفي مطلع ثمانينيات القرن الماضي، أجبر باعة البالة فيها على الانتقال شرقا إلى ساحة تقع جوار "جسر المحطة"، وكان مبرر الترحيل أن مالك الجورة (وزارة الأوقاف) تنوي استثمارها واقامة مبنى تجاري كبير فيها، لكنه لم يقم لغاية الآن.
• قُسمت ساحة السوق الجديدة في المحطة إلى نُمر بمساحة 6 امتار مربعة للنمرة الواحدة، ثم سمح بسقفها بسقوق مؤقتة ما تزال قائمة إلى الآن (السقف المؤقت يعني احتمال الإزالة). وقد تحولت إلى محلات صغيرة يبلغ عددها حوالي 250 محلا، تحمل اسم "سوق بالة المحطة"، وظل السوق منطقة خاصة نسبيا يقصده زبائنه الساعين إلى سلعة رخيصة الثمن من الملابس والأحذية تحديدا.
• في العام 2003 قررت أمانة عمان الكبرى إعادة بناء "مجمع رغدان"، وهو مجمع النقل الذي أسس العام 1973 وتشكلت حوله وفي الطريق إليه سوق كبيرة ونشاط تجاري وحرفي لخدمة طرفي عملية النقل (الركاب والسائقين). وقد أعلن للعموم، عند إغلاق مجمع رغدان أن مشروع تحديث وإعادة بناء المجمع سينجز خلال 3 سنوات، وسيكون مبنى كبيرا عصريا وسوف يتضاعف استيعابه، وطلب من الجميع أن يتحملوا وينتظروا مؤقتا.
• نُقل مجمع السيارات إلى ساحة فارغة في منطقة المحطة وتقع على مسافة 3 كلم إلى الشرق من مجمع رغدان القديم. وأقيم فيها على عجل مجمع سيارات قيل أنه "مؤقت"، وقد تصادف أنه يقع على بعد 500 متر من "سوق بالة المحطة" المشار إليه والقائم منذ مطلع الثمانينيات.
• كانت المساحات المحيطة بمجمع السيارات الجديد إلى ذلك الحين مشغولة بمؤسسات ومبان أهلية وحكومية، ذلك ان شارع المحطة كان يعد مركز النشاط التجاري والصناعي الخفيف في العاصمة لعدة عقود.
• في العام 2008 وفي سياق المرحلة التي ميزها "تخطيط ارتجالي" يهدف لتحديث عمان، طرحت الأمانة فكرة روجت لها كثيرا تحت عنوان "مشروع وادي عمان" الذي أعطي في البداية اسما ترويجيا هو "سوليدير عمان"، نسبة إلى مشروع "سوليدير بيروت" الذي أقيم على أنقاض وسط بيروت القديم. وقد أراد مخططو عاصمتنا نقل الفكرة، ورأوا أن "الجزيرة" التي تقع بين شارعي المحطة والجيش، والتي تبدأ من مبنى الأمانة والمدرج الروماني غربا وصولا إلى جسر المحطة شرقا، والتي تبلغ مساحتها 400 دونم، هي مساحة مناسبة لهذا المشروع، الذي سيضم وفق المخططات الترويجية العديد من الفنادق والمطاعم والأسواق ومحلات الترفيه والبرك والملاعب...!
• في هذه الأثناء باشرت الأمانة بأعمال البنية التحتية لمشروع وادي عمان هذا، فاستملكت عشرات الدونمات من أصحابها، وأبلغت أصحاب المحلات والكراجات ان عليهم الرحيل، وهدمت الكثير من المباني جزئيا أو كليا. 
• ولكن فجأة أعلنت أمانة عمان عن توقف المشروع، ونُسب التوقف إلى تداعيات الأزمة المالية العالمية الشهيرة العام 2009، لأن المشروع كان يستهدف مساهمة شركاء من كبار المستثمرين "الحساسين" تجاه حالة الاقتصاد العالمي. 
• بالمحصلة، فإن نتائج المشروع باختصار كالتالي: مخططات واوراق جميلة ملونة وصور "فوتوشوب" فاخرة، بعضها ما يزال منشورا على الموقع الإلكتروني الرسمي للأمانة، أما في أرض الواقع، فقد صار لدينا مبان مهدمة تحولت إلى "خرابات معاصرة" وساحات فارغة هنا وهناك، ومستنقعات ومكبات مؤقتة صغيرة نمت في الزوايا...الخ.
كيف تصرف الناس؟
في موقع كهذا، شعبي بامتياز تاريخيا، لا يقف الناس مكتوفي الأيدي منتظرين. وإذا كان التخطيط الرسمي أعلن فشله وتوقفه، فإن "التخطيط الشعبي" لم يتوقف، بل سوف يكون أكثر نجاحا.
فمع إعلان الأمانة أن مجمع النقل في المحطة هو مجمع دائم، وأن وسائط النقل العام لن تعود إلى رغدان، بدأ المشتغلون في القطاع غير الرسمي (البسطات وبعض الحرف والخدمات) يخططون لحياتهم على مدى أطول. وقد خاضوا خلال السنوات الماضية العديد من المواجهات دفاعاً عن ميدان عيشهم ومصدر رزقهم.
في بلدنا، وفي كل بلدان العالم، فإن القطاع غير الرسمي يتمتع بمرونة عالية تجاه التغيرات العمرانية والسكانية المحيطة. 
وفي الموقع الذي ندرسه هنا، بدأ نشاط البسطات يتمدد في الساحات الفارغة، ولما كانت المنطقة المحيطة فقيرة عموما، ومع انحسار فئات مستخدمي النقل العام واقتصارها على الفقراء فعلاً (9 % من السكان وفق إحصاءات رسمية)، فإن نشطاء التجارة الشعبية عرفوا ما عليهم فعله.
في هذا التقرير سنتجاوز حالة البسطات داخل حرم مجمع النقل نفسه (سبق لصحيفة "الغد" أن غطتها في تقرير سابق). وسوف نتابع ما يجري في الشوارع والساحات المحيطة.
أشرنا فيما سبق إلى مسافة تبلغ حوالي 500 متر تفصل مجمع النقل عن "سوق البالة"، ولكن إذا نظرنا إليها كمسافة طولية لانتشار البسطات فإنها ستبلغ حوال 1500 متر تنتشر بها مئات البسطات.
هنا ستفاجأ حتما بأصناف البضائع وتنوعها الشديد: الملابس والأحذية والادوات المنزلية والكهربائيات (تلفزيونات، ثلاجات، غسالات، أفران غاز، مدافئ..) والعدد اليدوية والأدوات الصحية وأجزائها، وعدد النجارة والحدادة والصيانة، وخدمات الهواتف وأجزائها واكسسواراتها (قديم وجديد وتالف وشبه تالف لدرجة أن بعض الباعة يترك الجزء غير المباع من بضاعته في الشارع).
سوف تجد بسطات للمكياجات (مستعمل وجديد!) وبسطات متخصصة بالبراغي والمسامير، وأخرى تعرض قطعا مختلفة لأشياء متناقضة، فقد تجد كؤوسا وفناجين وصحونها، إلى جانب فردة حذاء، إلى جانب مقعدة حمام أو مغسلة مستعملة، وبجانب هذا ستجد مقبض باب أو لمبات إنارة...! وعندما تسأل عن سبب التنوع يقال لك: لكل شي زبائنه.
المساحات متوفرة بشكل مريح لغاية الآن، ومن المتوقع أن يستوعب السوق المزيد من الباعة، وهو للآن ينقصه التخصص والتنظيم، فهذا يحتاج للمزيد من الوقت.
مصادر البضاعة متعددة، فجزء كبير منها مما يجري إعادة تدويره عن طريق ما يعرف بـ"السّراحة"، سواء من خلال السيارات التي تشتري المستعمل من البيوت، أو السراحة والتنبيش في الحاويات، ولهذا النشاط الأخير حضور ملحوظ في هذا السوق.
تبدأ جولة الزبون، من مجمع النقل إلى السوق أو العكس، والزبائن هنا من الجنسين ومن مختلف الأعمار، وهناك عدد كبير من الزبائن على شكل أسر، لأن السوق يحتوي بضائع لجميع أفراد الأسرة الفقيرة.
واقع الأمر أن المكان بالمجمل يشكل سوقا متكاملة للفقراء، فمجمع السيارات يضم بسطات وأكشاكا للخضار والفواكه والملابس والأحذية من صنف جيد للزبون الفقير "درجة أولى فقر"، بينما يوفر سوق البالة في المحطة الملابس والأحذية للزبون الفقير "درجة ثانية" وبينهما توفر بسطات الشارع ما يحتاجه الفقير من الدرجة الثالثة.