الموازنة على طاولة النواب: الاسئلة المطلوبة*د. رعد محمود التل
الراي
تأتي مناقشة مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2026 في لحظة مفصلية من مسار تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي، التي يفترض أن تشكل الإطار العام الاقتصادي للتخطيط المالي والاستثماري للدولة خلال العقد المقبل. فالموازنة ليست وثيقة محاسبية جامدة تحدد حجم الإيرادات والنفقات وحسب، بل هي انعكاس لخيارات اقتصادية وسياسات حكومية تحدد اتجاه الاقتصاد وقدرته على تحقيق النمو.
من هذا المنطلق، فإن الدور المتوقع من مجلس النواب يجب أن يتجاوز النقاش التقليدي حول حجم البنود والأرقام إلى مستوى أعمق يختبر مدى انسجام مشروع الموازنة مع الرؤية التحديث الاقتصادي. فالرؤية قامت على ثمانية محركات للنمو وحددت قطاعات ذات أولوية مثل الصناعات عالية القيمة، الابتكار والريادة، السياحة والخدمات المستقبلية، الزراعة والأمن الغذائي، البيئة والطاقة، والخدمات اللوجستية. وهذا يتطلب أن تعكس الموازنة توجه الإنفاق العام نحو هذه المحركات، وأن ترتبط برؤية واضحة تقود إلى تحول اقتصادي حقيقي.
بالتالي من الضروري أن يطرح النواب عند مناقشة مشروع الموازنة أسئلة جوهرية حول مدى ترجمة الحكومة للرؤية إلى برامج قابلة للتنفيذ، وهل يظهر أثر هذه البرامج في تخصيصات الإنفاق، وهل هناك مؤشرات قياس واضحة يمكن من خلالها تقييم ما إذا كانت الموازنة تحوّل رؤية التحديث من وثيقة نظرية إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع؟
معالجة هذا الجانب تقود إلى المحور الثاني المتعلق بالعجز المالي، وهو أحد أبرز التحديات التي يجب على النواب التوقف عندها. فالعجز المجمع في الموازنة ما يزال مرتفعاً ويقترب من 2.8 مليار دينار، موزعاً بين عجز الموازنة العامة البالغ نحو 2.125 مليار دينار، وعجز الوحدات الحكومية المستقلة يقارب 671 مليون دينار. إن استمرار هذا المستوى من العجز يتطلب من النواب طرح أسئلة مباشرة حول أسبابه. هل يعود إلى ارتفاع الإنفاق الجاري؟ هل يرتبط بضعف نمو الإيرادات؟ أم أن الحكومة توسع الإنفاق دون توفر إيرادات مقابلة؟ هل مصدره زيادة الانفاق الراسمالي؟ كما أن من المهم معرفة إذا ما كان لدى الحكومه خطة مالية متوسطة المدى تهدف إلى إعادة العجز إلى مستويات منخفضة تدريجياً بما يضمن استدامة المالية العامة وعدم تراكم الدين بصورة تزيد الأعباء خاصة مع خدمة دين تقدر بحوالي 2.26 مليار دينار.
ويأتي الجانب الثالث المتعلق بالإنفاق الرأسمالي كملف جوهري يحتاج رقابة دقيقة. فقد ارتفع بند الإنفاق الرأسمالي خلال السنوات الأخيرة، وهو أمر إيجابي نظرياً لأنه يوظف الموارد الحكومية في مشاريع تنموية تسهم في تحسين البنية التحتية والإنتاج وخلق فرص العمل. ولكن التحدي الحقيقي لا يكمن في قيمة ما تم رصده، بل في كيفية إنفاقه وأثره الفعلي على الاقتصاد. فجزء من الإنفاق الرأسمالي يتحول في بعض الأحيان إلى نفقات تشغيلية ورواتب داخل بنود تصنف رأسمالية وهي ليست كذلك، وهو ما يضعف أثره التنموي. لذلك من الضروري أن يتأكد النواب من أن الإنفاق الرأسمالي (1.7 مليار دينار) موجه إلى مشاريع إنتاجية لها عائد واضح ، وأن هذه المشاريع مرتبطة بأهداف رؤية التحديث الاقتصادي ومؤشرات قياس محددة.
ويرتبط بهذا الملف موضوع المتأخرات الحكومية، وهي لا تظهر بشكل واضح في الموازنة رغم أنها التزام مالي حقيقي يجب التعامل معه بشفافية. وللأمانة تولي هذه الحكومة هذا الملف أهمية غي مسبوقة لأنها تدرك أن عدم تسوية هذه الالتزامات أو تأجيلها يخلق فجوة تخطيطية ويؤثر على الثقة المالية ويعطل مصالح جهات تعتمد على الإنفاق الرأسمالي لاستمرار أعمالها، ولذلك فإن التعامل معها بوضوح يعزز مصداقية السياسة المالية ويحسن من الاداء الاقتصادي.
رغم أن المادة 112 من الدستور لا تتيح للنواب إحداث تغييرات جوهرية في أرقام الموازنة إلا من خلال خفض الإنفاق، فإن دور المجلس الرقابي لا يتوقف عند ذلك، بل يمتد إلى طرح الأسئلة الصحيحة التي تحدد اتجاه السياسة المالية للدولة. والسؤال المركزي هنا هو: هل تسهم الموازنة في نقل الاقتصاد إلى مرحلة نمو جديدة أم تبقى استمراراً لنهج تقليدي لا يحقق الطموح؟ الإجابة على هذا السؤال هي التي يجب أن تشكل جوهر المناقشة تحت قبة البرلمان.