أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    17-Sep-2025

الأطر القانونية والإستراتيجية للتوقيع الرقمي (3-3)

 الغد- د.حمزة العكاليك

 أما مبادرات القطاع الخاص فأهمها خدمة أورنج (eKYC): حيث أطلقت شركة أورنج الأردن خدمة التوثيق الإلكتروني الذاتي، التي تستخدم نظام "اعرف عميلك إلكترونياً" (EKYC) بالتعاون مع منصة "سند". تُمكن هذه الخدمة العملاء من توثيق هوياتهم والاشتراك في خدمات الاتصالات عن بعد دون الحاجة لزيارة المعارض، مما يُعزز من دور القطاع الخاص في التحول الرقمي.   
 
 
هذه الجهود ليست معزولة، بل تُشير إلى إستراتيجية متكاملة. فهناك دافع سياسي رفيع المستوى (توجيه ولي العهد)، وبنية تحتية حكومية (منصة سند)، وتحفيز للقطاع الخاص (ومبادرة البنك المركزي بتحدي DiSiFi)، وتفعيل قطاعي (مشروع وزارة العدل)، وتكامل مع الجهات التنظيمية (موافقة هيئة الاتصالات لأورنج). هذه المنظومة المتكاملة تُظهر أن الأردن يسير بخطوات مدروسة نحو تحقيق تحول رقمي شامل.
وتُقدم التجارب الدولية الناجحة نماذج قيمة يمكن للأردن الاستفادة منها في تطوير منظومته الخاصة ولتقييم مدى استعداد الأردن للريادة الإقليمية، فمن الضروري مقارنة إطاره التشريعي بنماذج عالمية رائده: كالاتحاد الأوروبي وسنغافورة  والولايات المتحدة. 
أما فيما يتعلق بنموذج الاتحاد الأوروبي (eIDAS) حيث تُشكل لائحة eIDAS (التحديد الإلكتروني والمصادقة وخدمات الثقة) الإطار القانوني الموحد لخدمات الهوية والثقة الإلكترونية في الاتحاد الأوروبي. وتقوم اللائحة على ثلاثة مبادئ أساسية: الاعتراف المتبادل بين الدول الأعضاء، وقابلية التشغيل البيني، وتوفير أمان عال. الأهم من ذلك، تُصنّف eIDAS التوقيعات الإلكترونية إلى ثلاثة مستويات:   
1.التوقيع الإلكتروني البسيط (Simple Electronic Signature): يُوفّر مستوى أساسياً من الأمان، وهو مناسب للتطبيقات منخفضة المخاطر.   
2.التوقيع الإلكتروني المتقدم (Advanced Electronic Signature): يُوفّر مستوى أعلى من الأمان، ويرتبط بشكل فريد بالموقّع، ويسمح باكتشاف أي تعديلات على البيانات الموقعة.   
3.التوقيع الإلكتروني المؤهل (Qualified Electronic Signature): يُمثّل أعلى مستوى من الأمان، وهو معادل للتوقيع اليدوي من الناحية القانونية. يجب أن يتم إنشاؤه باستخدام جهاز توقيع مؤهل وشهادة رقمية مؤهلة.   
وتُعزز التحديثات الأخيرة للائحة (eIDAS 2.0) مفهوم المحفظة الرقمية الأوروبية (European Digital Identity Wallets)، التي تُمكّن المواطنين من التحكم الكامل في بياناتهم واستخدام هوياتهم رقمياً في الخدمات العامة والخاصة عبر الحدود.   
وفي حالة سنغافورة التي طورت منصة (SingPass): حيث تُعد سنغافورة واحدة من الدول الرائدة في مجال الهوية الرقمية. تُتيح منصة SingPass للمواطنين والعملاء إمكانية التوثيق الآمن لهويتهم رقمياً للوصول إلى الخدمات الحكومية والخاصة. وتُعزز هذه المنصة الثقة في المعاملات الرقمية من خلال استخدام تقنيات متقدمة مثل "Genuine Presence Assurance"، التي تضمن أن المستخدم هو شخص حقيقي وليس مجرد صورة أو تسجيل فيديو. لقد ساهمت هذه التجربة في زيادة شمولية الخدمات الرقمية، لا سيما لكبار السن الذين يجدون صعوبة في التنقل، وتشجيع النمو في الاقتصاد الرقمي.  
وأما نموذج الولايات المتحدة (ESIGN Act) فيُعد قانون ESIGN (قانون التوقيعات الإلكترونية في التجارة العالمية والوطنية) لعام 2000 هو الإطار القانوني الرئيس في الولايات المتحدة. يُعد هذا القانون مرناً إلى حد كبير، حيث يُضفي صلاحية قانونية على التوقيع الإلكتروني ما دامت هناك نية للتوقيع وأن السجل يمكن الاحتفاظ به من قِبل الأطراف. على عكس لائحة eIDAS، لا يُصنّف قانون ESIGN التوقيعات إلى مستويات فنية محددة، بل يُركّز بشكل أكبر على إثبات نية الأطراف وربط التوقيع بالوثيقة بشكل يمكن إسناده إلى الموقّع.   
يُظهر التحليل أن الإطار الأردني، يعاني من غياب نظام تصنيف التوقيعات، يميل إلى نموذج ESIGN الأميركي. ويفتقر إلى قوة وصرامة نظام eIDAS، الذي يضمن أعلى مستويات الثقة عبر الحدود من خلال تصنيف التوقيعات. إن هذه الفجوة في التصنيف قد تُفسّر الحذر القضائي في الأردن، حيث لا يوجد تصنيف قانوني واضح يمنح التوقيع حجية مطلقة بشكل تلقائي. هذا الواقع يُبرز الحاجة إلى تحديث الإطار التشريعي الأردني لتبني نموذج هجين يجمع بين مرونة ESIGN وصرامة eIDAS، مما يُعزز من الثقة القانونية والقبول الدولي.   
كما يمتلك الأردن مقومات فريدة تؤهله ليصبح مركزاً إقليمياً رائداً في مجال التوقيع الرقمي. هذه المقومات تشمل الدافع السياسي الرفيع المستوى، ووجود بنية تحتية قوية للمفاتيح العامة (PKI) لدى البنك المركزي، بالإضافة إلى تطبيق وطني موحد مثل سند. والأهم من ذلك، يمتلك الأردن كفاءات بشرية أردنية تساهم في التحول الرقمي في المنطقة والعالم. لتحويل هذه المقومات إلى واقع ملموس، يُقترح اتباع خريطة طريق إستراتيجية تشمل المحاور التالية:   
تحديث قانون المعاملات الإلكترونية امر أساسي وذلك بإصدار لوائح تنفيذية واضحة (كما ينص قانون دولة الإمارات على ذلك) تُحدد شروط ومعايير التوقيع الرقمي المؤهل. كما يُوصى بتبني نموذج متعدد المستويات على غرار لائحة eIDAS، بحيث يتم تصنيف التوقيعات إلى مستويات مختلفة بحسب الغرض منها، مما يمنح الشركات والأفراد خيارات تتناسب مع احتياجاتهم.   
كما لا بد من بناء الثقة القضائية حيث يُعد التردد القضائي في قبول التوقيع الرقمي كدليل وحيد تحدياً كبيراً. لحل هذه المشكلة، يجب عقد ورش عمل وبرامج تدريب متخصصة للقضاة والموظفين القانونيين لزيادة فهمهم للتقنيات المستخدمة وكيفية فحص مسارات التدقيق الرقمي (Audit Trails) التي تضمن عدم التلاعب بالوثيقة. هذا التدريب سيمكن القضاة من تقييم الحجية القانونية للتوقيعات الرقمية بشكل مستقل وموثوق.   
ويجب على الأردن السعي نحو إبرام اتفاقيات اعتراف متبادل مع الدول المجاورة والدول ذات الاقتصادات الكبرى، مما يُعزز من قبول التوقيعات الرقمية الأردنية في المعاملات التجارية والعقود العابرة للحدود.   
ولا بد من تطوير البنية التحتية والتقنية من حيث الربط البيني الشامل فتُعد مشكلة عدم التكامل بين أنظمة الدوائر الحكومية والقطاع الخاص عائقاً رئيساً. ويجب الاستثمار في بناء منظومة متكاملة تربط جميع الأطراف، بحيث يُمكن للمواطن إتمام معاملة واحدة من البداية إلى النهاية رقمياً دون الحاجة إلى التنقل بين المكاتب.   
ولا بد من تحفيز الابتكار المحلي فيجب مواصلة المبادرات مثل تحدي DiSiFi لدعم الشركات المحلية وتطوير حلول مبتكرة. هذا النهج لا يقتصر على توفير حلول تقنية، بل يُعزز من القدرات الوطنية ويخلق نظاماً بيئياً للتكنولوجيا المالية، مما يضمن استدامة التحول الرقمي.   
كما لا بد من تفعيل سند بالكامل حيث يُشكل تطبيق سند حجر الزاوية في الهوية الرقمية الأردنية. يجب توسيع نطاق خدمات التوقيع الرقمي على التطبيق وتسهيل عملية التفعيل، لتصبح في متناول جميع المواطنين، ليس فقط في المؤسسات الحكومية، بل وفي القطاع الخاص أيضاً.   
إن مشروع التوقيع الرقمي في الأردن يُشكّل فرصة إستراتيجية لتعزيز مكانة المملكة كقوة إقليمية في مجال التحول الرقمي. فالأردن يمتلك المقومات الأساسية للريادة، من الدعم السياسي الرفيع إلى البنية التحتية المتطورة والكفاءات البشرية المتميزة. والتحدي الحقيقي لا يكمن في رقمنة الأوراق، بل في بناء منظومة ثقة رقمية متكاملة تتجاوز حدود التقنية والقانون لتصل إلى تغيير ثقافي عميق.
إن النجاح في هذا المسعى يتطلب العمل على ثلاثة محاور متوازية تحديث الأطر القانونية لتوحيد المعايير وتعزيز الحجية القانونية، وتطوير البنية التحتية التقنية لضمان التكامل والفعالية، وبناء الثقة المجتمعية والقضائية لضمان القبول الكامل. فإذا نجح الأردن في تنفيذ خريطة الطريق هذه، سيتمكن من تحقيق رؤيته للتحول الرقمي، وسيكون التوقيع الرقمي هو البصمة التي تُمكّن اقتصاده ومجتمعه من التقدم نحو مستقبل آمن ومزدهر.