الغد
خلال السنوات الأخيرة، تحول الذكاء الاصطناعي من مجرد أداة داعمة لاتخاذ القرار في الأسواق المالية إلى لاعب أساسي، بل وربما محوري، في إدارة عمليات التداول واكتشاف الأسعار. وقد تراوحت التقييمات بين من يرى الذكاء الاصطناعي مجرد "محرك تنفيذي" للتداولات، وبين من يعتبر أن الأسواق دخلت مرحلة جديدة أنهت قرنين من التفوق البشري في تفسير البيانات وصنع اتجاهات السوق. وفي هذا السياق، تبرز المقارنة بين الطرح التقليدي الذي يؤكد أن البشر يمسكون بزمام السيطرة، والمقال الذي أحدث ضجة بعنوان: "The Eighteen-Hour Reckoning: How Artificial Intelligence Ended Two Centuries of Human Dominance"، الذي يرى أن سدّة القيادة انتقلت بالفعل إلى الآلات والذكاء الاصطناعي.
من ناحية، يؤكد التحليل الأول أن الذكاء الاصطناعي أصبح اللاعب الأكبر في تنفيذ أوامر التداول، وأن ما يقارب 70 % من عمليات الشراء والبيع في الأسواق المتقدمة تدار بخوارزميات عالية السرعة. هذه الأنظمة قادرة على قراءة الأخبار وتحليل البيانات الاقتصادية واستخلاص الإشارات السعرية أسرع مما يستطيع أي محلل مالي أو متداول بشري. لكنها – وفق هذا الرأي – تظل في نهاية الأمر أدوات تعمل ضمن إطار تنظيمي وسيادي يحدده البشر، فالقوانين، والسياسات النقدية، وإدارة المخاطر، وتصميم الخوارزميات نفسها كلها عمليات بشرية بحتة لا يقترب الذكاء الاصطناعي من مساحتها السيادية.
على الجانب الآخر، يذهب مقال "الثماني عشرة ساعة"، إلى أبعد من ذلك بكثير. فهو لا يتحدث عن تفوّق تقني فحسب، بل عن تحوّل هيكلي في "اكتشاف السعر"؛ وهو قلب أي سوق مالية. يزعم الكاتب أن الذكاء الاصطناعي خلال ساعات قليلة استطاع أن ينتزع القيادة من البشر، ليس فقط بسرعته، بل بقدرته على تفسير بيانات متداخلة ومعقدة بطريقة لم تعد للبشر فيها قيمة حاسمة كما كان الحال طوال مائتي عام. ولأول مرة، لم يعد السوق ينتظر تقييمات المحللين أو قراءاتهم للأحداث، بل أصبح يعكس مباشرة ما تنتجه الآلات من فهم وتفسير وتوقع.
المفارقة بين الرأيين تكشف فجوة معرفية حول معنى "السيطرة". فإذا كان المقصود السيطرة التنظيمية، فإن البشر ما يزالون متقدمين. أما إذا كان المقصود السيطرة العملية على حركة الأسعار في الزمن الحقيقي، فإن الآلات تظهر تفوقاً واضحاً يزداد قوة كل يوم. وعليه، ربما نعيش اليوم مرحلة انتقالية لا تتعلق بمن يحكم السوق بل بمن يفهمه أسرع، ومن يستطيع تحويل المعلومة إلى قرار سعري قبل غيره.
الاستنتاج العام من مقارنة الطرحين، أن الذكاء الاصطناعي لم يُلغِ البشر بعد، لكنه بدّل موقعهم في النظام المالي: من صانعي حركة السوق إلى مراقبين أو مشرعين لها. إنه تحول لا يُنقص من قيمة القرار البشري، لكنه يجرد البشر من احتكارهم التاريخي لمعنى "السوق". المستقبل لن يكون لصراع بين البشر والذكاء الاصطناعي، بل لتعايش تحكمه ضوابط صارمة تضمن ألا تتحول الأسواق إلى ساحات خوارزمية منفلتة. وفي الوقت نفسه، تسمح بالاستفادة من السرعة والكفاءة الهائلة التي للآلات.