التعليم والاقتصاد والعمل.. المواءمة غير المستقرة*د. ابراهيم بدران
الغد
منذ عدة سنوات، وعند بدء السنة الجامعية وتحرك الطلبة لتحديد اختياراتهم والتخصصات التي يرغبون بها، تنطلق مقولة "المواءمة بين التعليم وسوق العمل"، وتشتد الدعوة للابتعاد عن التخصصات التي أطلق عليها اسم "راكدة أو مشبعة".
ومع هذا فإن تغيرا واسعا وعميقا لم يحدث، لا في التعليم ولا في بطالة الخريجين الجامعيين التي تتعدى 27 % للذكور، و 33 % للإناث، ولا في الاقتصاد الذي ما يزال معدل النمو فيه ضئيلا حوالي
2.5 % بينما الزيادة السكانية الطبيعية 2.8 %، والحاجة سنويا إلى 140 ألف فرصة عمل. وما يزال الإقبال على التعليم الجامعي يتصدر المشهد، فلدينا هذا العام 70 ألف طالب مقابل 15 ألفا أو أقل للتعليم المهني والتكنولوجي.
من جانب آخر فإن إحالة عطاء الناقل الوطني بكلفة 2 مليار دينار على شركة فرنسية دون أن يكون للقطاع الخاص الأردني دور فاعل في دراسات وتمويل وتنفيذ هذا المشروع يثير التساؤل، خاصة وأن التصريحات الرسمية، هنا وهناك، تؤكد على أن القطاع الخاص الوطني شريك إستراتيجي في تنفيذ المشاريع الكبيرة. وعلى هامش الانتخابات يتساءل البعض هل سيكون لمجلس النواب مساهمة واضحة في تطوير الاقتصاد الوطني؟
وهنا لا بد من الإشارة إلى عدد من النقاط، وعلى النحو التالي. اولاً: إن النمو الاقتصادي المتواضع في اقتصاد يتفوق فيه الاستيراد، 18 مليار دينار لعام 2023، على التصدير 8 مليارات دينار لنفس العام، يجعل سوق العمل هلاميا غير محدد المعالم بطريقة يمكن البناء عليها لسنوات مقبلة. فالطالب الجامعي الذي يلتحق اليوم بالجامعة لن يصل إلى سوق العمل قبل 4 أو 5 سنوات مما يجعل مقولة المواءمة قلقة بعيدة عن الاستقرار. ثانياً: إن التركيز على تخصصات جديدة في سوق صغير الحجم لن يحل المشكلة، لأن المطلوب ليس فقط التخصصات الجديدة على أهميتها، وإنما المطلوب إحداث تغيير جوهري في التعليم الجامعي وفي جميع التخصصات بدون استثناء لينقل التعليم من " إعطاء المعلومات الى التمكين من المهارات". إضافة أن الأرقام العالمية تبين أن70 % من الخريجين لا يعملون في تخصصاتهم باستثناء الطب والعلوم الصحية. وتمكنهم مهارات "التعلم" و"الإبحار في المجتمع" من العمل في مجالات أخرى. ثالثاً: إن المهارات الحياتية واللغوية والرقمية والإبداعية والتخصصية إضافة إلى مهارات التعلم والتفكير والتحليل وحل المشكلات، ومهارات مواجهة المسؤولية والإبحار في تفصيلات المجتمع، كلها أصبحت ضرورية لكل تخصص ابتداء من اللغة وانتهاء بالهندسة والتكنولوجيا. رابعاً: إن تأهيل الطالب في الجامعة وتمكينه من المهارات فلسفته ومبرراته ان يكون الخريج قادراً على التكيف مع مجالات أخرى للانخراط فيها، أو إنشاء فرصة عمل له بنفسه من خلال المشاريع الصغيرة التي يبادر بها الخريجون، وليس استسلام الخريج ليبحث عن فرصة عمل محددة قد يجدها أو لا يجدها. وهذا يجعل من تعليم مادة " الريادية وإدارة المشاريع" ضرورة قاطعة لكل تخصص مهما كان. خامساً: أن تدريس الريادية وتمكين الطالب من مهاراتها يمثل البوابة الواسعة لتنشيط النمو الاقتصادي وزيادة معدلاته وفي نفس الوقت لمواجهة مشكلة البطالة التي تتفاقم عددياً سنة بعد أخرى. فكل مشروع صغير يبدأ به الريادي يخلق من 3 الى 5 فرص عمل خلال3 سنوات. سادساً: يجب أن يستقر في عقل الإدارة الرسمية ان هناك "تشابكا شرطيا كبيرا بين نوعية التعليم وبين النمو الاقتصادي وبين سوق العمل والإنتاج، والذي بدوره لا يتحقق بشكل فاعل إلا بالمشاركة الفعلية للقطاع الخاص. وان البطالة لن تتراجع اذا استمرت السياسة بالبحث عن المستثمر الأجنبي (مع الاحترام) والمقاول الأجنبي (مع التقدير) وفي نفس الوقت التغاضي عن الخبرات والمهارات والعقول الأردنية في كل مجال. سابعاً: صرحت وزارة الاستثمار بأن هناك مشاريع استثمارية تزيد قيمتها على 5.4 مليار دولار وتبحث عن مستثمرين. والسؤال لماذا لا تطرح وزارة الاستثمار هذه المشاريع بالتفصيل والتشاركية على رجال الأعمال الأردنيين من خلال لقاءات واجتماعات متواصلة وعلى البنوك والشركات الكبرى بدل انتظار المستثمر ليأتي في ظروف اقليمية بالغة التعقيد؟. ثامنا: إن البرامج الاقتصادية تضعها الحكومات بالتعاون مع الخبراء والعلماء والمفكرين الوطنيين ويراقب البرلمان تنفيذها، وليس العكس.
وأخيراً فإن التناولات الجزئية لا تؤدي إلى أي تغيير حقيقي فالتعليم والبطالة والاقتصاد والقطاع الخاص والقطاع الرسمي ورؤية الدولة للمستقبل كلها حلقات متشابكة لا تعمل أي منها على انفراد.
هل يمكن للجامعات أن تبدأ مرحلة جديدة في تطوير التعليم باتجاه المهارات؟ وللإدارة الحكومية أن لا تتجاهل القطاع الخاص الوطني بما فيه من إمكانات مالية ومهنية وتعاقدية تستطيع تنفيذ أي من المشاريع؟ تلك هي المسألة. لندع الطلبة يدرسون ما يشاءون، وما يمكن ان يبدعوا ويتميزوا فيه، ولكن علينا أن نمكنهم من المهارات العصرية ومن الريادية والاعتماد على الذات، فذلك هو المستقبل.