من 50 دولارا إلى 18 مليونا: المعادلة السرية لغسيل الملايين عبر أنظمة البنوك! (1 - 2)
الغد-د. حمزة العكاليك
خلف تلك الألوان الزاهية في عوالم فورتنايت (Fortnite) أو روبلوكس (Roblox)، قد لا يكون اللاعب الذي يشتري الأزياء الافتراضية، بل بوت (Bot) مبرمجا بدقة يديره مجرم من الجانب المظلم للإنترنت. فلغة الأرقام تصفعنا بالحقيقة المجردة لسيناريو واحد فقط تم رصده في أقبية الويب المظلم: تخيل عصابة تدير جيشاً إلكترونياً مكوناً من 1,000 حساب وهمي فقط. مهمة كل حساب بسيطة وتافهة: شراء عملات افتراضية بقيمة 50 دولاراً يومياً باستخدام بطاقات مسروقة. بالنسبة للنظام البنكي التقليدي، لا تثير أي ريبة ولا تطلق أي إنذار (Red Flags). لكن، أخرج آلتك الحاسبة وانظر للكارثة:
1,000 حساب× 50$ يومياً= 50,000 $ غسيل يومي
وفي نهاية العام، تكون المحصلة: $50,000× 365 (يوما) $18,250,000= سنوياً.
نعم، أنت تقرأ الرقم بشكل صحيح: أكثر من 18 مليون دولار يتم غسلها وتبييضها أمام أعيننا عبر لعبة فيديو واحدة، بأسلوب التجزئة الهيكلية الخبيث الذي يعجز البشر عن ملاحقته. وإذا أضفنا لهذا المشهد السوداوي واقع المتاجر الوهمية، حيث ينفق المجرم 500 دولار لإنشاء متجر إلكتروني مزيف يحقق له عائداً استثمارياً إجرامياً يتجاوز 1000 %، ندرك حينها أننا لسنا أمام لعب أطفال، بل أمام آلة اقتصادية جبارة للجريمة.
هذا السيناريو المروع الذي يحدث في عوالم الألعاب ليس مجرد ثغرة عابرة، بل هو دليل قاطع على أن الرادارات التقليدية التي بنيت عليها أنظمتنا البنكية عمياء تماماً أمام هذه الإستراتيجية الماكرة. فكيف استطاعت المافيا الرقمية تطوير آلتها الاقتصادية الجبارة للجريمة لتعمل خارج نطاق التغطية المصرفية؟ فهذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل هي دليل واضح على أن أنظمة الإنذار المالية الحالية لا تستطيع ضبط هذه الحركات المالية. فالحل الوحيد هو إنشاء وحدة استخبارات مالية متخصصة تمتلك من الذكاء الاصطناعي والأدوات الرقمية ما يمكنها من كشف هذه الأنماط الجرمية الخفية.
وفي حين ينشغل المحققون بملاحقة الحسابات الفردية، يظهر في الجانب المظلم من الإنترنت ما هو أخطر وأكثر تعقيداً: جريمة غسل المعاملات. فلقد تجاوز المجرمون مجرد استخدام الألعاب، ليصبحوا خبراء في تدمير الثقة في نظام الدفع العالمي. فما هي هذه الآلية الخبيثة التي تتيح لهم تمرير مئات المليارات؟ (Transaction Laundering)، تُعد اليوم الوجه الجديد والأكثر شيوعاً للجريمة المالية. فالمجرمون يستخدم نشاطاً تجارياً غير معروف عبر الإنترنت، مستغلين بيانات اعتماد الدفع الخاصة بمتاجر معتمد لمعالجة معاملات غير شرعية، وكأنها مبيعات لمنتجات وخدمات عادية. هذه الآلية الخبيثة تسمح بتمرير ما يقارب 200 مليار دولار سنوياً في الولايات المتحدة وحدها، حيث تختلط أموال تجارة المخدرات والسلع غير المشروعة بتدفقات مالية تبدو نظيفة تماماً عبر أنظمة دفع عالمية مرموقة مثل PayPal وSkrill وحتى عبر تطبيقات الهاتف المحمول مثل M-Pesa.
وإذا كان غسل المعاملات يمثل التدمير المنظم لنظم الدفع التقليدية، فإن ظهور العملات الافتراضية المشفرة قد فتح جبهة جديدة بالكامل أمام الجريمة. فكيف تحولت تقنية كانت تهدف للتحرر المالي إلى أداة مفضلة لتجار المخدرات لتحويل أرباحهم القذرة؟ فالعملات الافتراضية المشفرة، وعلى رأسها البيتكوين، فتحت باباً واسعاً للاحتيال المالي، حيث أصبحت أجهزة الصراف الآلي الخاصة بهذه العملات أدوات مفضلة لتجار المخدرات لتحويل أرباحهم النقدية إلى أصول رقمية يصعب تعقبها. فخطورة هذه العملات تكمن في سرعة تطورها وقدرتها على تجاوز الحدود الجغرافية في ثوانٍ معدودة.
وبعيداً عن أجهزة الصراف الآلي للبيتكوين، عاد المجرمون لاستغلال البيئات الرقمية غير الخاضعة للرقابة بشكل مكثف.
وهنا يبرز دور عالم الألعاب والمقامرة على الإنترنت، الذي تحوّل من مساحة ترفيه بريئة إلى واحة مثالية للتهرب الضريبي وتبييض الأموال بدم بارد فما يحدث في كواليس ألعاب الفيديو الإلكترونية تحديداً يستدعي وقفة جادة؛ فقد تحول هذا السوق الضخم إلى بيئة خصبة لغسل الأموال عبر استغلال الثغرات الأمنية. فالتقارير تشير ومنها ما كشفته شركة Check Point Research، إلى وجود ثغرات في ألعاب شهيرة مثل Fortnite سمحت للقراصنة بالسيطرة على حسابات اللاعبين واستخدام العملات الافتراضية داخل اللعبة لغسل عائدات بطاقات الائتمان المسروقة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أظهرت محركات بحث متخصصة مثل Shodan وجود آلاف قواعد البيانات المكشوفة التي يستغلها المجرمون. وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال استخدام المافيا لمواقع المقامرة عبر الإنترنت كواحات للتهرب الضريبي والقانوني، محولة أرباح الجريمة إلى مكاسب مقامرة معفاة من الضرائب، في عملية تدوير مالي معقدة يصعب إثباتها دون تعاون دولي وثيق.
لقد انتهى زمن مراقبة الصفقات الكبيرة والتدقيق اليدوي. والحل الوحيد لوقف هذا النزيف الذي يتجاوز المليارات لا يكمن في مراقبة كل لاعب أو متجر إلكتروني، بل في إنشاء وحدة استخبارات مالية فائقة التخصص. هذه الوحدة يجب أن تمتلك من أدوات الذكاء الاصطناعي (AI) ما يمكّنها من رصد الأنماط الخفية وسلوكيات جيش البوتات؛ فلقد كشفت هذه الجولة في خبايا الإنترنت عن حقيقة مزعجة: أنظمتنا المصرفية لا يمكنها مجاراة براعة المجرمين في استخدام الألعاب، العملات المشفرة، وحتى المتاجر الوهمية. فمواجهة هذا الطوفان تتطلب أكثر من مجرد تحديثات أمنية بسيطة. فنحن بحاجة ماسة إلى بناء هذه الوحدة المتخصصة في الاستخبارات المالية الرقمية لتكون على نفس مستوى ذكاء الخصم.