التلوث والاقتصاد الزراعي*د. أيوب أبودية
الراي
يُلحق تلوث الهواء خسائر فادحة بالزراعة العالمية، ويؤثر على كمية إنتاج المحاصيل، وصحة أوراق النباتات ونوعية التربة، والأمن الغذائي والمائي بشكل عام، حيث تتأثر الدول المتقدمة والنامية على حد سواء بالتلوث. وتتنوع هذه الخسائر من تلف المحاصيل وتردي أحوال التربة ونوعية المياه إلى زيادة نفقات الرعاية الصحية. وطالما تنتشر هذه التداعيات للتلوث وعلى نطاق واسع فإنها تؤكد الحاجة الملحة إلى بذل جهود متضافرة لمعالجة قضايا تلوث الهواء.
إحدى الطرق المهمة التي يؤثر بها تلوث الهواء على الزراعة هي من خلال ترسب الملوثات وتراكمها على المحاصيل. إذ تُعد الجسيمات العالقة في الهواء والأوزون وثاني أكسيد النيتروجين من بين الملوثات التي يمكن أن تستقر على أسطح النباتات، الأمر الذي يعوق عملية التمثيل الضوئي وامتصاص العناصر الغذائية والتنفس (تبادل ثاني أكسيد الكربون مع الأكسجين). وبالتالي يؤدي ذلك إلى انخفاض إنتاجية المحاصيل وتدهور جودة الغذاء. فعلى سبيل المثال، في المناطق التي ترتفع فيها مستويات الأوزون، غالبًا ما تشهد المحاصيل الأساسية، مثل القمح والأرز، انخفاضا في النمو والإنتاج، مما يؤثر بشكل مباشرعلى إنتاج الغذاء.
وإلى جانب التأثيرات المباشرة على المحاصيل، يلعب تلوث الهواء دورا مهما في تغيير أنماط الطقس عبر الاحتباس الحراري والتغير المناخي، مما يؤدي إلى تغيرات في شدة هطول الأمطار وكمياتها وتفاوتات في درجات الحرارة. إذ يمكن أن تؤدي هذه التحولات إلى تعطيل مواسم النمو والتأثير على مدى ملاءمة مناطق معينة لمحاصيل بعينها. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي تغير أنماط هطول الأمطار إلى حدوث حالات جفاف أو فيضانات أكثر تواتراً وشدةً، مما يعرض استقرار الزراعة في المناطق المتضررة للخطر. ولمثل هذه الاضطرابات آثار مضاعفة في جميع أنحاء سلسلة الإمدادات الغذائية، مما يسهم في تقلب الأسعار وانعدام الأمن الغذائي.
ويسهم تلوث الهواء في تكوين الأمطار الحمضية، والتي يمكن أن يكون لها آثار ضارة على صحة التربة. وتؤثر هذه البيئة الحمضية على توافر العناصر الغذائية، مما يعوق نمو النباتات ويقلل من خصوبة التربة الزراعية. وفي المناطق التي تكثر فيها الأمطار الحمضية، قد يواجه المزارعون تكاليف متزايدة مرتبطة بتعديلات في محتويات التربة والحاجة إلى ممارسات بديلة للحفاظ على صحة التربة وعافيتها.
كما أن تربية الماشية ليست محصنة ضد آثار تلوث الهواء. إذ يمكن أن يؤثر سوء نوعية الهواء على صحة الجهاز التنفسي للماشية، مما يؤدي إلى انخفاض الإنتاجية وزيادة معدلات الوفيات. وفي المناطق التي ترتفع فيها تركيزات ملوثات الهواء، قد يحتاج المزارعون إلى الاستثمار في أنظمة التهوية المحسنة والرعاية البيطرية للتخفيف من تأثيرها على صحة الماشية. وبالتالي تزيد هذه التكاليف الإضافية من الضغط على نجاح الجدوى الاقتصادية لعمليات تربية الماشية.
ومن الملحوظ اليوم أن عولمة سلاسل الإمدادات الغذائية تعني أن العواقب الاقتصادية لتلوث الهواء على الزراعة لا تقتصر على المناطق التي ينشأ فيها التلوث. إذ يمكن أن يؤدي فشل المحاصيل أو انخفاض انتاجها في جزء واحد من العالم إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية على مستوى العالم بأسره. ويؤكد هذا الترابط الحاجة إلى التعاون الدولي في معالجة قضايا جودة الهواء لضمان الأمن الغذائي على نطاق عالمي.
وتتطلب ادارة التكاليف الاقتصادية الناجمة عن أثر تلوث الهواء على الزراعة إنفاذ قوانين جودة الهواء كخطوة حاسمة لتقليل انبعاثات الملوثات التي تضر بشكل مباشر بالمحاصيل والتربة والمياه. ولا يقل عن ذلك أهمية الاستثمار في الممارسات الزراعية المستدامة التي تعزز القدرة على الصمود في مواجهة الظروف المناخية المتغيرة وتخفف من تأثير تلوث الهواء. علاوة على ذلك، فإن تشجيع البحث والابتكار في مجال تربية المحاصيل المحسنة من أجل زيادة القدرة على مقاومة ملوثات الهواء من شأنه أن يساعد في تطوير أصناف أكثر قوة ومرونة واستدامة في مواجهة التحديات البيئية.
وبناء عليه، فإن التكاليف الاقتصادية لتلوث الهواء على صعيد الزراعة العالمية كبيرة، كالأضرار المباشرة التي تلحق بالمحاصيل والتربة إلى زيادة نفقات الرعاية الصحية والتحديات المرتبطة بالثروة الحيوانية. ويتطلب التصدي لهذه التحديات وتخفيف الأثر الاقتصادي لتلوث الهواء على الزراعة، وضمان إمدادات غذائية مستدامة وآمنة للأجيال القادمة، بذل جهد عالمي منسق للحد من انبعاثات ملوثات الهواء، كما هي الحال في المجهود الذي تبذله اجتماعات الأمم المتحدة الاطارية لمواجهة التغير المناخي، فضلا عن الاستثمار في الممارسات الزراعية المستدامة، وتعزيز الإبداع في أصناف المحاصيل القادرة على الصمود في عصر التغير المناخي الذي لا تزال السيطرة عليه بعيدة المنال.