الدستور
طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من السعودية ومنظمة أوبك خفض أسعار النفط، مما أثار جدلًا واسعًا حول الأهداف الحقيقية لهذه الخطوة وتأثيرها المحتمل على الاقتصاد العالمي، وعلى السعودية وروسيا على حد سواء. تُعد السعودية اللاعب الأكبر في سوق النفط العالمية، إذ تمتلك 21.5% من إجمالي احتياطي النفط في منظمة أوبك، التي تستحوذ مجتمعة على 79.1% من احتياطي النفط العالمي. وبذلك، تقع السعودية في صلب هذا التفاعل المعقد الذي يجمع بين المصالح الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية.
تمثل أسعار النفط المرتفعة عاملًا أساسيًا لاستقرار الاقتصاد السعودي، حيث بُنيت ميزانية المملكة على توقعات سعر 80 دولارًا للبرميل، وهو السعر الحالي تقريبًا في سلة أوبك. إلا أن الضغوط الأمريكية تتناقض أحيانًا مع الأهداف الاستراتيجية للسعودية، خصوصًا في ظل مطالبة ترامب بزيادة الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة من 600 مليار دولار إلى تريليون دولار، وفق ما نُشر في بعض وسائل الإعلام.
يعتمد الاقتصاد السعودي بشكل كبير على النفط، الذي يسهم بنحو 70% من إيرادات الحكومة و50% من الناتج المحلي الإجمالي. وإذا خفضت السعودية، ومنظمة أوبك، أسعار النفط استجابة للضغوط الأمريكية، فإنها تعرض نفسها لخسائر مالية كبيرة. على سبيل المثال، قد يؤدي انخفاض أسعار النفط بمقدار 20 دولارًا للبرميل، من 80 إلى 60 دولارًا، إلى خسارة يومية تُقدَّر بنحو 200 مليون دولار، أي ما يعادل 73 مليار دولار سنويًا. مثل هذه الخسائر قد تُفاقم العجز المالي، مما يجعل السعودية بحاجة إلى أسعار نفط تفوق 80 دولارًا للبرميل لتحقيق التوازن المالي.
تواجه السعودية هذه الضغوط بينما تخوض تحولًا اقتصاديًا كبيرًا تحت مظلة رؤية 2030، التي أُطلقت عام 2016. تتطلب هذه الرؤية استثمارات هائلة في مشاريع تنموية مثل مشروع «نيوم» ومبادرات الطاقة المتجددة. وإذا انخفضت إيرادات النفط بشكل ملحوظ، فقد تضطر الحكومة السعودية إلى إعادة ترتيب أولوياتها وتقليص الإنفاق على هذه المشاريع، مما قد يؤثر سلبًا على تحقيق الأهداف التنموية. بالإضافة إلى ذلك، فإن أي تراجع كبير في الإيرادات قد يُضعف احتياطيات النقد الأجنبي، التي بلغت نحو 449 مليار دولار في نوفمبر 2024، مما يُعقِّد الحفاظ على استقرار العملة وتمويل الالتزامات الدولية.
خفض أسعار النفط لن يؤثر فقط على السعودية، بل ستكون له تداعيات مباشرة على روسيا، ثاني أكبر مصدر للنفط عالميًا، التي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على صادرات الطاقة لتمويل نحو 45% من ميزانيتها. انخفاض الأسعار يعني تقليصًا فوريًا لإيرادات روسيا، مما يُضعف قدرتها على تمويل الحرب في أوكرانيا. هذه النقطة تُعد محورًا أساسيًا لدعوة ترامب لإجراء تخفيضات في أسعار النفط.
قد تؤدي هذه التطورات إلى زعزعة استقرار الاقتصاد الروسي بشكل أكبر، حيث سيضغط تراجع العائدات على قيمة الروبل الروسي ويزيد من التحديات الاقتصادية الداخلية التي تواجهها روسيا في ظل العقوبات الغربية. تجدر الإشارة إلى أن مطالبة ترامب بخفض أسعار النفط تتقاطع مع مطالبات ست دول في الاتحاد الأوروبي لخفض سقف أسعار النفط الروسي إلى أقل من 60 دولارًا للبرميل، في إطار السعي لتقويض إيرادات موسكو.
على صعيد آخر، يُمثل طلب ترامب من السعودية زيادة استثماراتها في الولايات المتحدة تحديًا إضافيًا. يتطلب تحقيق هذا الهدف موارد مالية ضخمة قد يصعب توفيرها إذا تضررت إيرادات النفط. تواجه السعودية هنا معضلة معقدة بين الوفاء بالطلبات الأمريكية لدعم الاقتصاد العالمي وضمان الاستقرار المالي الداخلي اللازم لاستمرار المشاريع التنموية الطموحة. زيادة الاستثمارات الخارجية على حساب الأولويات المحلية قد تثير مخاوف داخلية، خصوصًا إذا تسببت في تباطؤ أو تقليص المشاريع التنموية.
يتجلى التناقض في المطالب الأمريكية؛ فمن جهة، تسعى واشنطن إلى خفض أسعار النفط لدعم الاقتصاد العالمي وتهدئة التضخم، ومن جهة أخرى، تطلب زيادة الاستثمارات السعودية التي تتطلب موارد مالية ضخمة. هذا التداخل بين المصالح الاقتصادية والجيوسياسية يُعقِّد قرارات السعودية بشأن أسعار النفط، حيث يتعين عليها الموازنة بين استراتيجياتها الوطنية والتزاماتها الدولية.
خفض الأسعار قد يعزز العلاقات مع الولايات المتحدة ويسهم في استقرار الأسواق العالمية، لكنه يأتي بتكاليف اقتصادية جسيمة على السعودية، بالنظر إلى أن عائدات النفط تشكل العمود الفقري لاقتصادها.
تُجسد معركة النفط بين ضغوط ترامب ومصالح السعودية أبعادًا أكثر تعقيدًا من مجرد خلاف اقتصادي، فهي انعكاس للعلاقات الدولية المتشابكة والتحديات التي يواجهها الاقتصاد العالمي في ظل ظروف متغيرة. تحتاج السعودية إلى تبني خطوات استراتيجية متوازنة تأخذ في الاعتبار مصلحتها الوطنية ودورها كقوة اقتصادية، مع التزامها بتحقيق أهداف رؤية 2030.
القرار بشأن أسعار النفط لن يكون مجرد استجابة لمطالب أمريكية، بل سيعكس قدرة السعودية على التكيف مع المتغيرات العالمية، وعلى موازنة أهدافها الاقتصادية والسياسية مع الحفاظ على موقعها المحوري في مستقبل الطاقة العالمي. من وجهة نظري، تمتلك المملكة العربية السعودية خبرات راسخة وتجارب متميزة في التعامل مع مثل هذه التحديات، مما يمنحها القدرة على تجاوز هذا المأزق بحنكة دبلوماسية رفيعة، مع تعزيز علاقاتها الإيجابية والمتوازنة مع جميع الأطراف المؤثرة.