الغد
منذ فترة وطريقة شن الحروب العسكرية، قد تغيرت، إذ لم تعد هذه الحروب هي الحل الوحيد لاحتلال أو اجتياح الدول، فالحرب الاقتصادية أصبحت أفضل حل، وأكثرها نفعًا، وأقلها تكلفة، خصوصًا أن تلك الدول لن تخسر جنديًا واحدًا، أو دولارًا من أجل التدخل العسكري، وما يلزمه من تسليح وطائرات حربية ومدرعات ودبابات، وكذلك القنابل والمُتفجرات.
وإذا ما أرادت دولة احتلال أُخرى، فإنها تعتمد الحرب الاقتصادية، وذلك من خلال الإسراف في تجويع الشعب، والتضييق عليه معيشيًا، وذلك بالتوازي مع ضرب منظومتي التعليم والصحة، فمن خلال الأولى نحصل على شعب أُمّي غير مُتعلم، وعن طريق الثانية يكون جُل الشعب مُتخمًا بالأمراض، بلا علاج وأدوية.
وعند الوصول إلى نقطة مُعينة، وُضعت بدقة وضمن برنامج مُمنهج، تأتي المرحلة الثانية من الحرب، وهي الانقضاض على ذلك الشعب، ومن ثم احتلال وطنه، أو تدميره بطريقة أو أُخرى، من خلال جعله عرضة للفتن، أيًا كان نوعها، وعملية الانقضاض تلك، ليس شرطًا أن تكون من دولة أُخرى، والتي قد يقع على عاتقها تقديم الدعم "اللوجستي"، وإنما عملية "التدمير" تكون من الداخل، ومن أبناء البلد نفسه، الذين ذاقوا الأمرين، وعانوا جراء شدة الجوع، والأمراض، والجهل، وهذا ما حصل تقريبًا في العراق وسورية، مع قليل من الفروقات.
بشأن العراق، وعند الساعة الثانية وعشرون دقيقة من فجر يوم السابع عشر من شهر كانون الثاني العام 1991، أقدمت نحو أربع وثلاثين دولة، بقيادة الولايات المُتحدة الأميركية، على تنفيذ عدوان عسكري ضد هذا البلد، أُطلق عليه حرب الخليج الثانية، أو "أم المعارك" حسب تسمية العراقيين، أو "عاصفة الصحراء" وفق تسمية واشنطن، وذلك بسبب "مُعلن" هو احتلال الكويت من قبل العراق.
وقد صرح خُبراء عسكريون واستراتيجيون بأنه وبُعيد ساعات من بدء تلك الحرب، كانت القوات العسكرية العراقية وقطاعاتها المُختلفة "شبه مُنتهية"، أي تم تدميرها، أو على الأقل تسعون بالمائة منها.. لكن الشيطان الأكبر (أميركا)، لم تستطع احتلال العراق، أو حتى أجزاء منه، وكُل ما استطاعت فعله هو إخراج العراق من الكويت.
لم تكتف دول "محور الشر" بذلك، بل أصرت على تحقيق هدف رسمته منذ أعوام، إن لم يكن في سبعينيات القرن الماضي، وهو تدمير العراق وتفتيته وتحويله إلى دويلات، فضلًا عن زرع الفتنة بين أبنائه، أكانت طائفية أم عرقية أم دينية.. وهذا ما أكده وزير خارجية الولايات المُتحدة الأسبق، هنري كسينجر، عندما قال: "الطريق إلى القدس يمر عبر سقوط بغداد".
واستخدمت لذلك السلاح الاقتصادي، إذ أتقنت فن تجويع الشعب العراقي، و"أسرفت" بجعله في غياهب الجهل والأُمية، وعُرضة للأمراض بسبب نقص العلاج والاختصاصيين، فضلًا عن انعدام فُرص العمل، وبالتالي فقر مُدقع وبطالة مُرتفعة.
ليصل بعد ذلك، الشعب العراقي إلى نقطة بات معها "يلفظ" كُل شيء، بعد أن وصل إلى مرحلة "مُهمة" في تدمير الشعوب بشكل عام، والتي تتمثل بعدم قدرته على تأمين الطعام لأفراد أُسرته، وكذلك تعليمهم، أو توفير الدواء لهم في حال المرض، ومن ثم وصل إلى مرحلة
"الطوفان"، والتي يتساوى فيها العدو مع أبناء الوطن.. بعدها تمكن الجيش الأميركي وبكُل يسر وسهولة من احتلال العراق، وبأقل عدد من الجنود والعتاد العسكري.
وذلك مُشابه لما حصل في سورية، حيث بدأت "الثورة" منذ العام 2011، وعلى الرغم مما تلقته من دعم مالي وصلت قيمته إلى مئات المليارات من الدولارات، وكذلك دعم عسكري أو تأهيل وتدريب لمئات الفصائل المُسلحة أو "الثوار".
وعلى الرغم من كل ذلك، إلا أنه لم تتم السيطرة على دمشق، وإن قال البعض إنها حافظت على صمودها بفعل التدخل الروسي.. لكن بعد ثلاثة عشر عامًا، تخللها جوع وقهر وجهل وأُمية لأبناء الشعب السوري، تم السيطرة على سورية وبأقل عدد من الجنود والمُدرعات، أو بمعنى أصح من خلال دراجات نارية وهوائية.
قد تكون هناك فروقات ما بين حالتي العراق وسورية، فقد يقول البعض إن من قام ضد النظام السابق في سورية، هم من أهل البلد، بينما في الحالة العراقية كان الغرب، بقيادة واشنطن، هم عرابو احتلال العراق ومن ثم تدميره.. لكن في الحالين، فإن السلاح الاقتصادي، واعتماد تجويع الشعب، وإغراقه في الجهل، وجعله عُرضة للأمراض، هو القاسم المُشترك الأساسي في تدمير الدول وتقسيمها وتفتيتها.