أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    01-Dec-2025

هوية مالية رقمية موحدة لكل عميل (2-1)

 الغد-د. حمزه العكاليك

بينما تتسابق الاقتصادات العالمية لبناء بنى تحتية مالية أكثر ذكاء وصلابة، تتجه الأنظار نحو مفهوم واحد يغير قواعد اللعبة: الهوية المالية الرقمية الموحدة. فوجود هوية مالية متسقة لم يعد تفصيلا تقنيا في النظام المصرفي، بل تحول إلى معيار تنظيمي يعيد تشكيل مفهوم الشفافية والمخاطر والامتثال. وفي الأردن، يبرز هذا التحول كفرصة استراتيجية، إذ إن الاعتماد على هويات مالية مشتتة من الممكن أن يترك فجوات يمكن أن يستغلها المجرمون ذوي الياقات البيضاء تربك جهود الرقابة. فبناء هوية موحدة ليس مجرد تحديث رقمي، بل خطوة نحو تأسيس نظام مالي أكثر انضباطا وقابلية للنمو؛ وهو تحول يفتح آفاق المشهد المالي الإقليمي والدولي للأردن خلال العقد المقبل.
 
 
فالتحديات التي يواجهها النظام المالي الأردني لم تعد مرتبطة بغياب التشريعات أو محدودية أدوات الامتثال، بل بفرصة ذهبية لإعادة صياغة مفهوم الهوية المالية نحو نموذج أكثر حداثة واتساقا. فتناثر بيانات العميل بين حسابات متعددة وبمستويات تحقق مختلفة يحجب عن المؤسسات المالية القدرة على بناء صورة موحدة ودقيقة لسلوك العملاء ومخاطرهم. ومع أن الجهود التنظيمية الحالية قطعت أشواطًا مهمة، إلا أن تبني هوية مالية رقمية موحدة سيمنح الجهات المالية قدرة غير مسبوقة على الربط والتحليل والاستباق، خاصة في التعامل مع الأنماط المالية المعقدة العابرة للمؤسسات. فالانتقال إلى هذا النموذج ليس مجرد حل لمشكلة قائمة، بل خطوة جوهرية نحو نظام مالي أكثر شفافية وكفاءة.
وتؤكد التجارب الدولية أن نجاح الهوية المالية الموحدة يبدأ من وجود طبقة تبادل بيانات تشرف عليها سلطة نقدية واحدة. وفي الحالة الأردنية، يمثل البنك المركزي الجهة الطبيعية لقيادة هذه المنظومة، لكن من دون أن يتحمل وحده مسؤولية دقة البيانات. فالنموذج الأمثل يعتمد على مركزية الإشراف، مقابل لامركزية المسؤولية؛ حيث تظل البنوك ومقدمو الخدمات المالية مسؤولين عن صحة البيانات التي يرفعونها، بينما يوفر البنك المركزي منصة موحدة وآمنة لتبادلها.
وقد انعكست هذه الرؤية بوضوح في مبادرات عملية مثل تحدي التوقيع الرقمي DISIFI، الذي أطلقه البنك المركزي بالتعاون مع جوباك، ما يرسل إشارة واضحة إلى أن تحديث البنية الرقمية لم يعد خيارًا، بل أولوية وطنية.
من أبرز مكامن القوة في نظام UDFI أنه يحول القطاع المالي إلى مساحة شفافة يمكن تتبعها لحظيًا. ففي ظل غياب الهوية الموحدة، يستطيع المجرمون استخدام حيلة التفتيت لتجنب الاشتباه. أما مع وجود معرف مالي مرتبط قانونيًا بالعميل، تصبح كل حركة مالية مرئية على مستوى النظام بالكامل، ما يعزز المراقبة المستمرة Ongoing AML Monitoring، ويقلل بدرجة كبيرة قدرة شبكات غسيل الأموال على التخفي. ويؤدي توحيد الهوية إلى تبسيط وتسريع عمليات تأهيل العملاء الجدد (Onboarding) بشكل كبير مما يدفع نحو نموذج عمل أكثر كفاءة. وهذا التوحيد يرفع مستوى الامتثال التنظيمي لمعايير وتعليمات البنك المركزي، ويساهم في تعزيز الشمول المالي الرقمي.
كما أن القطاع المالي عالميا يعاني من ارتفاع تكاليف الامتثال، خاصة في إجراءات اعرف عميلك KYC واعرف عملك KYB. غير أن الهوية الموحدة تقدم تحولا جذريًا؛ فهي تختزل عمليات التحقق، وتقلل العمل اليدوي، وتخفض نسبة الأخطاء البشرية. تظهر دراسات في قطاع التكنولوجيا المالية أن تطبيق وحدات تأهيل رقمية موحدة خفض زمن التأهيل من 24 يومًا إلى 4 أيام، أي انخفاض بنسبة 83 %، وما يعادل 25 % من تكاليف الامتثال، إلى جانب تحقيق رؤية مُحكمة لعمليات KYC وAML.
ولا يكتمل النظام من دون مراعاة الكيانات الاعتبارية. هنا يبرز معرف الكيان القانوني (LEI)، الذي نشأ بعد أزمة العام 2008، وأصبح شرطًا تنظيميًا لدى أكثر من 200 جهة مالية حول العالم.
إن إدماج LEI في الهوية المالية الأردنية سيمنح أسواق رأس المال شفافية عالمية، ويسهل تتبع ملكية الشركات وعلاقاتها المالية، ويرفع جودة تقارير الامتثال، ويختصر الجهد المطلوب للتحقق من الشركات المحلية والأجنبية.
ولقد تبنت المملكة العربية السعودية نموذجًا ناجحًا، يقوم على رقابة البنك المركزي المباشرة على أنظمة الدفع الإلكتروني، وإتاحة بنية موحدة لتبادل البيانات. ونتج عن ذلك تخفيض كبير في تكاليف الامتثال، وتوسع في الخدمات الرقمية، وارتفاع في مستوى الشمول المالي. هذا النموذج ينسجم مع ما يحتاجه السوق الأردني اليوم.
في نهاية المطاف، تمثل الهوية المالية الرقمية الموحدة أكثر من مجرد تحديث تقني؛ إنها حجر الأساس لمرحلة جديدة من النضج المؤسسي والشفافية في القطاع المالي الأردني. فاعتمادها لا يعالج فقط التحديات التشغيلية الحالية، بل يفتح الباب أمام منظومة أكثر كفاءة وقدرة، ويمنح المؤسسات أدوات دقيقة لاتخاذ قرارات أفضل وتحسين تجربة العملاء وتعزيز الثقة بالسوق. ومع تطور معايير الامتثال عالمياً وتحول البيانات إلى عنصر مركزي في تنافسية الدول، يمتلك الأردن اليوم فرصة فريدة لتحويل هذه الرؤية إلى واقع يدعم الاقتصاد الوطني ويؤسس لقطاع مالي أكثر قوة واستدامة. إن تبني هذا النموذج هو خطوة إلى الأمام نحو مستقبل مالي أكثر اتصالًا وكفاءة، يليق بطموحات الأردن وطموحات مؤسساته.