أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    17-May-2023

الأرقام ثروة وأداة ومؤشر ومصيدة*د بسام الساكت

 الراي 

يعتبر الرقم عند الاقتصاديين معرفة، وثروة، وشاخصة، ومؤشراً، وأداة «لصنع» القرار. واضحى السياسي اليوم ملتصقاً بالرقم ومدمناً عليه، وتلك أداة، وعلّة، ومصيدة. فإن لم يجد المجتمع من يحلِّل الرقم بمصداقية، وإن لم يتسلَّحَ صاحبُ القرار برؤية سليمة وكفاءة في قراءة الرقم وابعد منه، عندئذ تولد في المجتمع حالة ترهلٍ وإدمان رقمي Addiction يُضَلِّلُ بيئة القرار، ويضع البلاد والمؤسسات وولاة الأمر في مصيدة لا تسعفهم في وضع حل ناجع ٍ لأي مشكلة، كالتضخم والاستثمار والبطالة او البيروقراطية وعدم الاستقامة او علة المخدرات او ?ي مرض اجتماعي.. لذا وجَبَ ان يتسلّح المسؤول بالرقم، ويتمتع صاحب الولاية، أو من حوله على الأقل، بالكفاية التحليلية للارقام و يُنَجِّم فيها Statistical Mining حتى لا يقع المحظور، خاصة عند بروز اي ترابط شكلي Spurious Correlation، او غموض، أو افتعال تخفيض لظاهرة، أو مبالغات بين الأرقام،قد تُولِّدُ ضوضاء رقمية ونتائج وهمية False Impression.
 
إن مناسبة كتابتي اليوم في هذا الموضوع الفني، هي استجابة مني لطلب تلميذ علمٍ، كما فيه خدمةً للجامعات، والمسؤولين. فما اقرأه من تفسيرات البعض للاحصاءات والارقام، يرسم ابتسامات على وجهي، وتقرب بعض التحليلات، أن تكون احيانا بمثابة احلام وجهل يصل حدَّ التضليل.. وأتذكَّرُ هنا سؤالا في ورقة امتحاناتي النهائية في جامعة اكسفورد عام 1970، كانذلك حول الرقم: هل الأسوأ غياب الاحصاءات أم ندرتها أم كثرتها أم عدم دقتها؟ وما تعلمتُه أفادني ان المسألة متعددة الجوانب. فكثرة الارقام قد تولد تسمُّما وإرباكاً رقمياً، يسمى في ال?حليل Toxic.
 
كما وأن عدم إتاحتها، بمصداقية لولاةِ الامر، يولِّد اشباحا رقمية Statistical Ghosts تلاحق المسؤول والعامة من الناس، وبِركاً لا يستطيعون السباحة فيها. كما وأن ندرة الرقم وضعف دقته تتيح للمسؤول «خفيف الوزن» أو المُتصيِّد او الحزبيالسياسي، اختيار الرقم بما يناسب مصلحته Cherry Picking، لكي يُحّْدِث أضراراً بالاخرين، أو أن يربط بين رقم وآخر، ليتوصل إلى إبراز علاقة مصلحية أو إنجاز، وهمي.
 
وللتوضيح بالمقصود، «عمليا»، أضْرِبُ الأمثلة التالية:
 
1- يأتي مسؤول أو رئيس حزب سياسي فيختار رقماً عن ظاهرة مالية او اجتماعية لفترة ما سابقة تكون فيه الظاهرة في أدنى مستوياتها، ثم يختار رقما آخر عنها في فترة لاحقة تكون الظاهرة فيها في اعلى مستوياتها، ليصل الشخص إلى مقصده بأنَّ الوضع الحالي -في عهد خصومه -تفاقم وأكثر سوءًا مما سبق (كالبطالة) أو (التضخم) أو غيرها من العلل الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك العكس.
 
2- قد يأتي حزبِيٌّ شعبوي متحيز لقطاع الزراعة كون معظم ناخبيه منه، فيقارن بينمساهمة قطاع الزراعة في الدخل المحلي الاجمالي GNP فيلحظ «تقلصا نسبياً» مستمرا لمساهمة الزراعة، ليصل الى نتيجة يهاجم بها خصومه، او الحكومة، ويدافع عن الزراعة امام رعيته، لحمل الحكومة على دعمها، دون ان يلتفت الى ان «المساهمة المطلقة» لانتاج الزراعة قد تكون كبُرَت ولم تنخفض بالارقام المطلقة: «لكن المساهمة النسبية» فقط، انخفضت. وهذا طبيعي في البلاد النامية، حيث تتدنى مساهمة الزراعة% مع ظهور ونمو قطاعات جديدة تضيف وتكبر مساهمتها في الدخل?القومي كالسياحة والنقل والخدمات المالية والبنوك والتقنية والفنون والاتصالات. وهذا الامر حاصل عندنا حاليا في الاردن منذ عقود.
 
3- يأتي رئيس دائرة او سلطة ومؤسسة ما، ويعلن على الملأ، مُستخدِماً النِّسَب، بأن مؤسسته او سلطته عالجت وحلّت 96%من القضايا المرفوعة والمشاكل المعلقة اداريا عنده وفي عهده، سواء أكان مدير بلدية او شركة او قطاع الصناعة أو القضاء أو النقل او الشؤون الاجتماعية... الخ. وفي غياب التمعُّنِ والتحليل الذكي، قد يُضلِّلُ المسؤول الناس إذ يكون قد ادخل في «تعداد» القضايا المحلولة مسائل - ربما مطلوب حلها، لكنها صغيرة وغير ذات اولوية للمجتمع او للاقتصاد الوطني. وتبقى نسبة الـ 4% هي المشاكل والقضايا الكبيرة ذات الاولوية والها?ة للمجتمع والتي اغفلها المسؤول هنا. فيظهر أمام مرؤوسه رقمياً أنه انجز في حين انه قصّر وضلَّل.
 
4- يستخدم الرقم لبيان «العلاقة السببية» بين الظواهر. لكنه يساء استخدامه احيانا بالتحايل والتفسير. كأن يأتي مستثمر ومنتج أو مستورد مهتم في انتاج او تسويق سلعة «كاللوز»، ويرى من مصلحته تخفيض قدرة منافسية من منتجي «الفستق السوداني» اومستورديه، (حدث هذا في البرازيل). فيأتي بسلسلة رقمية احصائية لكميات استهلاك الفستق ويختار ارقاماً مقابلها، هي سلسلة مماثلة يختارها هو عن عدد حالات الجنون والامراض العقلية. ويطبق معادلة الارتباط الرقمية Correlation Equasion بين السلسلتين الزمنيتين ليجد «بالصدفة» أن استهلاك سلعة الف?تق يتصاعد بالتوازي مع تصاعد ارقام ظاهرة الامراض العقلية، وأن معامل الارتباط الرقمي في المعادلة R بين السلسلتين عالٍ. فيستنتج ويصرِّح ويُوحى للعامة بان هناك علاقة سببية بين الجنون واستهلاك الفستق. وبذلك يوحي للعامة، بانه لكي نخفض ونعالج حالات الجنون لا بد من تخفيض الناس استهلاكهم من الفستق!! إن هذا النمط من التلاعب الرقمي قد يصب لصالح منتجي اللوز. وهناك العديد من طراز هذا التضليل والتلاعب، يُستخْدَم فيه الرقم مطيّة للتضبيب وللتضليل.
 
إن فاعلية الرقم تتعاظم في حياتنا اليومية. فهو معرفة تحدد نطاق الامور، وثروة متجددة، يحتاج التعامل معه الى كفاية ودراية لكي يُستَخدَمَ بحكمة ورشد لاتخاذ القرار بمصداقية، للفوز والنجاح و لهزم الخصوم افرادا او مؤسسات او دولا، فمالِكُ المعرفة بالرقم والمتعامل بها بذكاء، يبني ويُعلِي ويُعَمِّر.
 
إن بيئتنا التنموية تتطلب بنوك معلومات متجددة وتطوير مناهج الرياضيات والعلوم والمعرفة الرقمية، في المدارس والجامعات ليتسلح المسؤول والطلبة بأدوات التحليل (نهج ياباني،كوري، سنغافوري) ولكي تؤخذ القرارات من نافذة أوسع، لا من النظر إلى الأمور من ثقب الباب، فلا يُرى من المشهد إلا دائرة بحدود ثقب الباب!.