الراي
يشير التصعيد العسكري الأخير بين إيران وإسرائيل إلى عمق الأزمة البنيوية التي يعيشها الشرق الأوسط. فعلى الرغم من أن المواجهة تبدو ثنائية، إلا أنها تكشف عن هشاشة النظام الإقليمي وغياب آليات فعالة لإدارة الأزمات، ما يفتح المجال أمام اتساع رقعة التوتر واستمرار حالة عدم الاستقرار.
تمتلك المنطقة موارد طبيعية هائلة من النفط والغاز والطاقة الشمسية والرياح، كما تحتل موقعًا جغرافيًا استراتيجيًا يربط بين ثلاث قارات. ورغم هذه المزايا، تظل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية مقلقة. فمعدلات البطالة والفقر مرتفعة، وجودة التعليم والخدمات الصحية في تراجع، وكل تصعيد أمني يؤدي إلى تراجع الثقة بالاقتصاد، وارتفاع تكاليف الشحن والتأمين، وإبطاء عجلة التنمية.
تشير تقديرات متخصصة إلى أن بعض الدول الإقليمية تنفق على التسلّح أكثر من ضعف ما تنفقه على التعليم أو الرعاية الصحية، ما يعكس اختلالًا في الأولويات الاقتصادية ويؤدي إلى تأجيل الاستثمارات الحيوية في المستقبل.
وتزداد صعوبة التعامل مع هذه التحديات في ظل غياب مؤسسات إقليمية فاعلة قادرة على التنسيق والاستجابة للأزمات. فقرارات الدول تُتخذ بشكل منفرد، وغالبًا ما تُفضي إلى مفاقمة التوترات. ولا يمكن فصل ذلك عن استمرار غياب حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، التي لا تزال تمثل حجر عثرة أمام بناء الثقة بين شعوب المنطقة.
في المقابل، يعكس ضعف التكامل الاقتصادي محدودية الرؤية التنموية المشتركة. فالتجارة البينية منخفضة، والتعاون في مجالات الابتكار والتعليم والطاقة محدود، رغم وجود طاقات شبابية هائلة قادرة على قيادة النهضة، إذا توفرت لها فرص التأهيل والتمكين.
أما على الصعيد الدولي، فلا تزال القوى الكبرى تؤثر في مسار المنطقة من منطلقات قصيرة الأمد، غالبًا ما تُغيب الاعتبارات التنموية والاستقرار طويل الأجل. ويبرز هنا ضرورة تطوير مقاربة دولية أكثر اتزانًا، تُعلي من شأن التنمية والأمن المشترك.
ومن بين أبرز العوامل الداخلية التي تؤجج التوتر وتعيق فرص الاستقرار، استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والابتعاد عن مسار التسوية العادلة. فهذا الواقع يُعمّق مشاعر الإحباط لدى شعوب المنطقة، ويُصعّب إطلاق أي مسار إقليمي جاد نحو سلام مستدام.
وإذا استمر الصراع بين إيران وإسرائيل، فإن المنطقة ستواجه تداعيات اقتصادية بعيدة الأثر. قد تتهدد طرق التجارة، وتتراجع الاستثمارات، وتُستنزف الميزانيات لصالح التسلّح بدل التعليم والصحة. كما ستتأثر السياحة، وقد تتعطل مشاريع الطاقة، ما يزيد من اتساع الفجوة التنموية بين الشرق الأوسط والمناطق الناشئة الأخرى.
إضافة إلى التكاليف المباشرة للصراع، تعاني المنطقة من تأخر رقمي وتكنولوجي واضح. فبينما تتسابق الأقاليم الناشئة نحو الذكاء الاصطناعي واقتصاد المعرفة، تظل استثمارات المنطقة في هذا المجال متواضعة ومشتتة. إن أي مسار تنموي حقيقي لا يمكن أن يتحقق دون بيئة مستقرة تشجع على الابتكار والتحول الرقمي.
كما أن استمرار النزاعات يعطّل قدرة دول المنطقة على مواجهة التحديات البيئية المتفاقمة، ويقوّض أمنها الغذائي والمائي، في وقت تُسجل فيه درجات الحرارة والضغط على الموارد مستويات غير مسبوقة.
تُظهر تجربة دول جنوب شرق آسيا كيف يمكن تحويل التوترات التاريخية إلى مسارات تكامل اقتصادي عززت الاستقرار ورفعت مستوى المعيشة، وهو ما يمكن الاستفادة منه في بناء نموذج تعاون إقليمي عربي فعّال.
إن الشرق الأوسط اليوم أمام لحظة فاصلة: إما أن يستمر في دوامة الصراعات، أو أن يتجه نحو بناء شراكات قائمة على التنمية والكرامة الإنسانية. فالتاريخ لا يرحم الجمود، ولا يمكن للمنطقة أن تواكب العالم دون إصلاح جذري شامل.
إن إنهاء الصراع الإيراني – الإسرائيلي لم يعد ترفًا دبلوماسيًا، بل ضرورة إقليمية ملحة. فاستمراره لن يحقق الأمن لأي طرف، بل يهدد مستقبل الجميع. وقد آن الأوان لأن تنعم شعوب هذه المنطقة، كما غيرها، بحقها في السلام والازدهار. والاستقرار الحقيقي لا تصنعه الاتفاقيات فقط، بل تبنيه أيضًا إرادة الشعوب المصمّمة على تحويل الأزمة إلى فرصة.