الاقتصاد الحديث... والنقل والسكة الحديد*د. ابراهيم بدران
الغد
يعتبر النقل عمادا رئيسا لأي اقتصاد متقدم، وليس هناك من دولة صناعية متقدمة إلا وقطاع النقل فيها يتميز بالمرونة والفاعلية وانخفاض الكلفة. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال شبكة مناسبة من السكة الحديد تغطي البلاد وتربط المحافظات والمناطق بعضها ببعض، سواء كانت المسافات طويلة ليصل طول الخط 2000كم كما هو خط سيبيريا في روسيا، أو قصيرا بطول 826 مترا فقط كما هو سكة حديد الفاتيكان.
ودون نسيان حرب الإبادة العنصرية الحاقدة التي يشنها المستعمر الصهيوني على غزة وحرب التهجير على الضفة الغربية، تستمر جلسات مراجعة برنامج التحديث الاقتصادي لتتناول قطاعات أساسية بعينها. ومن القطاعات التي تم بحثها قطاع النقل والذي طال تجاهله لفترة طويلة حتى غدا عبئا على المواطن وعلى الاقتصاد الوطني وعبئاً على البيئة والصحة والبنية التحتية. وقد نما القطاع خلال السنوات الثلاثين الماضية باتجاه النقل الفردي والحافلات الصغيرة والشاحنات، وغدا النقل أكبر مستهلك للطاقة فزاد استهلاك القطاع من الطاقة الأولية إلى 49 % ومن الطاقة النهائية 42 % وبكلفة إجمالية تتراوح بين 12 % إلى 16 % من الناتج المحلي الاجمالي. وبنهاية عام 2024 بلغ عدد المركبات العاملة 2.12 مليون مركبة وبزيادة بنسبة 4 % عن العام 2023، منها 1.4 مليون سيارة صغيرة مقابل 192 ألف نقل مشترك و190 ألف مركبات شحن. وانعكس ذلك على تلوث البيئة ليصبح النقل مسؤلاً عن 32 % من الانبعاثات الكربونية، اما الحوادث في عام 2023 فقد تعدت 560 وفاة مع اصابات بشرية وصلت 16469 إصابة، وبمعدل 45 جريحاً كل يوم. وقد تنامى عدد المركبات من مركبة لكل 69 شخصا عام 1970 إلى مركبة لكل 6 أشخاص عام 2023.
وعلى ضوء ذلك فقد أصبح تطوير قطاع النقل مسألة بالغة التعقيد والضرورة اجتماعيا واقتصاديا وبيئيا، نظراً لتجذر النمط الفردي الذي لا يمكنه التجاوب مع متطلبات الاقتصاد الحديث. يضاف الى ذلك أن الإدارات الرسمية لم تهتم ببناء خطوط أنابيب لنقل النفط الخام ومشتقاته والذي نستورد منه ما يزيد على 3.5 مليون طن سنوياً من السعودية والعراق وغيرهما، علماً بأن خط التابلاين كان يعمل لنقل النفط الخام عبر الاردن منذ 75 عاما وخط العراق منذ 90 عاما. الأشكال الكبير أن تقييم الخسائر الاقتصادية والصحية والبيئية الناشئة عن هذا النقل بالسيارات للافراد والسلع لا زال بعيداً عن الاهتمام. ورغم أن الموضوع كتب فيه مرات عديدة إلا أن عدم التغيير وغياب الاستجابة يتطلب التأكيد على المسائل التالية:
أولاً: وصل مجمل الحوادث على الطرق لعام 2024 ما يزيد على (190) ألف حادث بكلفة تتعدى 900 ألف دينار يومياً أي بكلفة 328 مليون دينار سنوياً أو ما يقرب من 0.8 % من الناتج المحلي الإجمالي في حين ان حوادث القطارات لا تصل 12 % من حوادث السيارات.
ثانياً: أنه مع التقدير للجهود التي تبذلها مؤسسات النقل الرسمية والاهلية فإن هذه الجهود تمثل في الجوهر «ادارة للأزمة وليس حلا جذرياً لها». ذلك أن الحل وخاصة في البلدان ذات المساحة الجيدة كما هو الأردن هو شبكات السكة الحديد، فهي مستخدمة بفعالية في (148) بلداً في العالم منها الكبيرة جدا مثل روسيا والصين والصغيرة مثل سويسرا وفلسطين المحتلة بل ومدينة الفاتيكان.
ثالثاً: إن اقتصاديات النقل بالسكة الحديد افضل بكثير من اقتصاديات النقل بالسيارات سواء الاشخاص أو البضائع فالكلفة بالسكة الحديد اقل من 30 % من السيارات لكل شخص كم واقل استهلاكا لوقود لكل طن كم واقل تلويثا للبيئة من النقل بالسيارات.
رابعاً: حسب تقديرات الخبراء فإن كل 1 دولار يستثمر في النقل السككي ينهض بالاقتصاد بمقدار 2.5 دولار، وكل وظيفة في السكة الحديد تولد 3.9 وظيفة في صناعات اخرى
خامساً: ان اشكالية الحكومة في السكة الحديد هي ارتفاع كلفة الانشاء لتصل اليوم الى ما يقرب من 10 ملايين دولار لكل كيلومتر. وهكذا فإن خطا اساسياً من العقبة حتى الشمال بطول 500كم يتوقع ان يكلف 3.5 مليار دينار وهو مبلغ تنظر اليه الحكومة نظرة تخّوف وتردد بل وابتعاد.
سادساً: ان النقل المنظم كالسكة الحديد يلعب الدور الاساسي في ربط المحافظات اقتصادياً واجتماعياً وثقافيا، ودوراً اساسيا في جذب المستثمرين واستعدادهم للذهاب الى المحافظات، ويلعب دوراً مهاما في تخفيف الهجرة من الريف الى المدينة، ودوراً اساسياً في مشاركة المرأة في سوق العمل حيث تنخفض مشاركتها لدينا الى ادنى رقم عربيا وعالمياً وهو 14 % بسبب غياب النقل المنظم.
سابعا: ان ما تأخذه الحكومة من ضرائب على البنزين والديزل والذي يقترب من 1250 مليون دينار سنويا ينعكس على كلفة الانتاج للسلع والخدمات فيدفع الاردن ليكون بالترتيب 57 على سلم الغلاء العالمي. وبالتالي تخسر الحكومة ويخسر المجتمع والإقتصاد الوطني ما يزيد عن ضعف عائدات الضرائب النفطية بسبب صعوبة المنافسة مع ارتفاع كلفة الإنتاج بالمقارنة مع دول مثل مصر وتركيا والسعودية ناهيك عن اسعار دول شرق آسيا. ثامناً: إن التأجيل والتسويف والترحيل لمشروع شبكة سكك وطنية بانتظار برنامج اقليمي لسكة الحديد لن يجدي ابداً. فالاقليم غير مستقر واسرائيل تسعى للسيطرة عل المفاصل الاقتصادية واللوجستية في الاقليم وفي مقدمتها المرافئ والسكة الحديد والمياه والتكنولوجيا والطاقة، وسوف تستعمل هذه السيطرة حتى لوكانت على شكل اتفاقيات للضغط السياسي لتحقيق اطماعها التوسعية كما نرى في حربها العنصرية على غزة وفي تجميد اتفاقية الغاز مع مصر بسبب غزة. تاسعا ان انشاء شركة مساهمة عامة يساهم فيها المواطنون واصحاب الاعمال والبنوك والشركات الكبرى والحكومة لتمويل المشروع السككي هي الآلية الصحيحة للتمويل وخاصة اذا تم الاتفاق مع بلد منخفض التكاليف مثل الصين.
وأخيرا فإن تطلع الأردن إلى اقتصاد تكنولوجي متقدم ودولة متماسكة الأطراف اقتصاديا واستثماريا واجتماعيا، وتطلعه ليكون مركزا لوجستيا وللأمن الغذائي للإقليم ومحطة تصل المشرق بأوروبا وكما اشار جلالة الملك أكثر من مرة، لا يتحقق إلا من خلال منظومة نقل قوية وغير مكلفة عمادها السكة الحديد.