فرصة شراكة.. كيف تحول غرفة صناعة الأردن البيانات إلى ميزه تنافسية؟*د. حمزة العكاليك
الغد
لا أدعي أنني خبير اقتصادي رغم أنني أحمل الماجستير في الاقتصاد السياسي الدولي، لكن التحول الذي تقوده غرفة صناعة الأردن أصبح حالة تستحق الوقوف عندها، ليس من باب الثناء فقط، بل لاستكشاف كيف يمكن تحويل هذا النجاح إلى إطار وطني شامل يعزز ثقة المستثمر ويرفع مستوى الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ويعيد بناء العلاقة بين المؤسسات الحكومية - وخاصة وزارة الاستثمار ووزارة الصناعة والتجارة -والقطاع الصناعي الوطني. فالتجربة العملية التي طبقتها الغرفة في السنوات الأخيرة لم تقتصر على التدريب أو دعم التصدير، بل تحولت إلى منظومة معرفية متكاملة تعتمد على البيانات والتحليل والحوكمة الفاعلة، وتخطيط بعيد المدى، يمكن البناء عليها وقياس أثرها.
واليوم، يبحث الأردن عن نموذج تنفيذي قادر على تعظيم القيمة الصناعية وزيادة الاستثمار النوعي. وإذا كانت وزارة الاستثمار مسؤولة عن السياسات الوطنية والحوافز التشريعية، فإن غرفة الصناعة قدمت ما ينقص هذه السياسات: بنية معرفية عملية قائمة على بيانات حقيقية. فقد بنت الغرفة إحدى أهم قواعد البيانات الصناعية في المملكة، تشمل تصنيف المناطق الصناعية، خصائص المصانع العاملة فيها، الفجوات التشغيلية، مستويات الجاهزية الرقمية، والفرص التنافسية لكل منطقة. هذه البيانات أصبحت مرجعًا للصناعة، ويمكن للحكومة تبنيها كأساس لصياغة سياسات تقوم على الأدلة، لا الاجتهاد.
إلى جانب ذلك، طورت الغرفة تحليلات دقيقة حول الوجهات التصديرية للصناعة الأردنية، مما مكنها من تحديد الأسواق الأفضل أداءً ودراسة المعوقات اللوجستية والتنظيمية في كل سوق. وقد انعكس هذا على الأداء؛ فصادرات غرفة صناعة عمّان بلغت نحو 7.164 مليار دينار العام الماضي، مع نمو ملحوظ في أسواق نوعية مثل الولايات المتحدة بنسبة 42.7 % والاتحاد الأوروبي بنسبة 16.6 %. هذه الأرقام لم تكن مجرد حظ اقتصادي، بل نتيجة لاستراتيجية توسع مدروسة.
ومن أبرز البرامج التي تستحق البناء عليها برنامج صُنع في الأردن، الذي تجاوز مرحلة الشعار الدعائي وتحول إلى علامة تسويقية وطنية، تهدف إلى بناء الثقة بالمنتج الأردني، ودعم وصوله للأسواق الخارجية، وتعزيز ثقافة الاستهلاك المحلي. البرنامج يستفيد من الرمز الدولي للمنتجات الأردنية (625)، لإبراز قصص نجاح في مجالات مثل الصناعات الدوائية، الكيماويات، البلاستيك، الأخشاب، والتكنولوجيا الغذائية، قصص يمكن استثمارها في جذب المستثمرين وإعادة تشكيل صورة الصناعة الوطنية.
إضافة لذلك، تقدم الغرفة دعمًا مباشرًا للمصانع في تصدير منتجاتها عبر تقديم الاستشارات، من خلال تقييم الجاهزية للتصدير، حل التحديات اللوجستية، وتوفير منصات تواصل مع المستوردين. كما نظمت ورش عمل وفعاليات محلية ودولية، لدعم تبادل المعرفة وتعزيز فرص السوق. هذه الجهود كانت مدعومة بوحدات متخصصة، مثل وحدة دعم التشغيل التي ساهمت في ربط الباحثين عن عمل بالمصانع، وخفض فجوة المهارات عبر التدريب الوظيفي.
كما قدمت الغرفة مكتبة صناعية رقمية تضم دراسات سوق، اتفاقيات تجارية دولية، بيانات صادرات، تقارير مقارنة دولية، أوراق موقف ونشرات اقتصادية تساعد أصحاب القرار على بناء سياسات واقعية قابلة للتنفيذ. هذا النوع من المعرفة المؤسسية لا يُقدر بثمن، ويمكن أن يشكل العمود الفقري لاستراتيجية حكومية صناعية مستقبلية مشتركة.
تجربة الغرفة تثبت أن التحول الاقتصادي لا يبدأ بقرارات إدارية أو تغيير كوادر، بل ببناء معرفة جماعية وتطوير كفاءات بشرية قائمة، لتصبح جزءًا من الحل بدل استبدالها. ويمكن للحكومة أن تستفيد من هذا النموذج عبر إنشاء منصة وطنية مشتركة للبيانات الصناعية، وإطلاق مسار وطني للتدريب المزدوج بين القطاعين، وتحديد مؤشرات أداء لمتابعة أثر التدريب على التصدير والاستثمار.
ولتحويل هذا النجاح إلى نموذج دولة، يمكن للحكومة إطلاق مجلس تنفيذي مشترك بين غرفة الصناعة ووزارتي الصناعة والاستثمار، يعمل على مواءمة الخطط الاستراتيجية وتبادل المعلومات، ويراقب مؤشرات الأداء للوصول إلى نتائج قابلة للقياس. هذا المجلس يمكن أن يقود مبادرات مثل تهيئة المناطق الصناعية حسب نسب الجاهزية الرقمية، وبناء خريطة استثمارية تعتمد على البيانات بدلا من الحدس.
كما أن ربط هذه الجهود بخطط التحول الرقمي الوطنية وإدماج تقنيات الثورة الصناعية الرابعة في الصناعة- لا كترف تقني، بل كضرورة تنافسية- سيعزز موقع الأردن في سلاسل القيمة الإقليمية والعالمية. فوجود منصة موحدة للبيانات الصناعية والتجارية، وتحديث الإجراءات القانونية بما يتوافق مع متطلبات السوق العالمية، سيشكل نقطة تحول حقيقية في بيئة الاستثمار.
وأخيرا، لا يمكن تجاهل أن تعزيز الثقة بين المستثمرين والجهات الحكومية يعتمد على استقرار السياسات واستمرارية الكفاءات المهنية داخل المؤسسات، لا على التغييرات المتكررة وغير المبررة. فإذا تم تحويل هذا النهج التشاركي إلى سياسة دولة، فسيقترب الأردن من تحقيق نموذج اقتصادي يعتمد على المعرفة والابتكار، لا على الاجتهاد الفردي أو القرارات المفاجئة. وعندها فقط سينظر المستثمر إلى الأردن باعتباره، بيئة مستقرة وواعدة اقتصاديًا. وهذا هدف يستحق أن نعمل الآن عليه معًا.