تريليون دولار.. كلفة الاحتراق الوظيفي الخفية*د. محمد عبد الحميد الرمامنة
الراي
في الوقت الذي تتسابق الدول والشركات لتحقيق النمو والأرباح ، هناك خسارة غير معلنة تهدر جهود الجميع: إنها الخسائر النفسية. إذ تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن الضغط النفسي والاحتراق الوظيفي يكبد المؤسسات الملايين سنويًا، ويؤدي إلى فقد الاقتصاد العالمي أكثر من 12 مليار يوم عمل بسبب اضطرابات الصحة النفسية مثل الاكتئاب والقلق، أي ما يقارب خسائر تقدر بالتريليون دولار سنويًا. الأهم هنا أن الاستثمار في صحة الفرد النفسية لا يقل أهمية عن أي استثمار مالي.
الاحتراق الوظيفي الذي بدأ يُدرج ضمن أهم مخاطر بيئات العمل المعاصرة، ليس مجرد “تعب يومي” يزول بإجازة قصيرة، بل ظاهرة تؤثر في الأداء، والمردود الاقتصادي، والتوازن النفسي للإنسان. في السعودية، رفعت دراسات متعددة علاقة الاحتراق بالرضا الوظيفي إلى مستوى مثير للجدل مؤكّدة أن هناك علاقة عكسية قوية بين الاحتراق والرضا الوظيفي ؛ حيث يقل الرضا بارتفاع مستويات الاحتراق، ويترافق ذلك مع ارتفاع نية المغادرة والالتزام الضعيف بالعمل
في الواقع، وبدون مبالغة صحفية، فإن الأبحاث العربية التي أجريت على معلمين ومعلمات في الأردن ، وجدت أن الاحتراق الوظيفي للمعلمين يرتبط بانخفاض الرضا لدى فئات مختلفة من العاملين، مع تأثيرات نفسية ملاحَظة مثل الإجهاد المزمن، الفتور العاطفي، وعدم الشعور بالكفاءة وفي الدراسة الميدانية بمنظمات الأعمال الكويتية، ظهر أن الرضا الوظيفي يلعب دورًا وسيطًا مهمًا بين تجربة الاحتراق ونتائج الأداء التنظيمي، وهو ما يمس مباشرة الالتزام الوظيفي ونية البقاء في العمل.
ما نشاهده اليوم ليس مجرد شكوى أو تذمر موظفين، بل خسارة حقيقية للأداء والإنتاجية. الاحتراق الوظيفي يشتت التركيز، يزيد الأخطاء، كما يضعف مواجهة الضغوط اليومية، مما يكبد المؤسسات الملايين سنويًا. الدراسات تؤكد: تجاهل الصحة النفسية أغلى بكثير من الاستثمار في برامج وقائية تعزز رفاه الموظف وتضمن استدامة الأداء.
من الجانب النفسي، تشير الأدبيات إلى أن الاحتراق الوظيفي يرتبط باضطرابات نوم، قلق، واكتئاب وظيفي، ومشكلات جسدية تؤثر في جودة الحياة خارج بيئة العمل، وهي أعراض أبلغ عنها كثيرون في نقاشات عامّة بمجتمعات العمل، عندما يتحدّث موظفون عن شعورهم بالإرهاق الذهني المستمر، والتراجع في جودة حياتهم الاجتماعية، وحتى الخلافات الأسرية الناتجة عن الضغوطات اليومية. كيف يمكن تقليل هذا الاحتراق الذي بات مؤثرًا اقتصاديًا ونفسيًا ؟تشير الأدبيات العلمية إلى مجموعة من استراتيجيات عملية مدعومة بأدلة بحثية: تبدأ بضبط عبء العمل وتوزيعه بشكل عقلاني بحيث لا يتجاوز مستوى الموارد المتاحة للموظفين؛ يليه تعزيز التوازن بين الحياة والعمل، من خلال نماذج عمل مرنة وإجازات منتظمة، وهو ما أثبتت دراسات عالمية أنه يقلل من الاحتراق ويعزّز الرضا والإنتاجية معًا ثمّ بناء ثقافة مؤسسية داعمة للصحة النفسية عبر برامج دعم واستشارات نفسية، التدريب على إدارة الضغوط ، وتشجيع اللقاءات المفتوحة، بدلًا من ثقافة التحمّل الصامت.
الاحتراق الوظيفي يسلّط الضوء على أهمية الصحة النفسية في بيئة العمل. الاهتمام برفاه الموظف يعتبر خطوة أساسية نحو استدامة المؤسسات وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، مع الحفاظ على التوازن بين الإنسان والإنتاج.