أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    16-Sep-2025

حديث خاص عن الموازنة العامة*د. رعد محمود التل

 الراي 

من المهم قبل البدء بإعداد وتجهيز الموازنة العامة للعام 2026 أن نصوب النهج التقليدي المتبع بإعداد الموازنات، وهو نهج بات من الواضح بأنه لا يصحح خللاً ولا يصوب واقعاً، وهذا حديث لا يجب أن يكون عابرا فالموازنة العامة أداة مركزية في إدارة الاقتصاد ، فهي لا تحدد فقط أولويات الإنفاق، بل تعكس رؤية الحكومة للتنمية والاستدامة المالية. ضمن هذه السياقات تشرفت بالاطلاع على دراسة الدكتور أحمد المجالي والمعنونة " تحليل الموازنة العامة وأوجه الإنفاق وعقلانيتها وسبل تحسينها" والتي عرضت في مجلس الاعيان بتنسيق من الدكتور مصطفى حمارنة. وفي هذا المقال سأستعرض أبرز النقاط الملفتة للإنتباه بعد اطلاعي على هذه الدراسة المهمة.
 
أحد أهم النتائج التي بينتها الدراسة أن الحجم الأمثل للإنفاق الحكومي يدور حول 28% من الناتج المحلي الإجمالي. ما دون هذه النسبة يعزز النمو الاقتصادي، وما فوقها يبدأ التأثير السلبي تدريجيًا. وبالنسبة للهدر الناتج عن الإنفاق فقد قدر بين 1.5% و2% من الناتج المحلي، أي ما يعادل نحو 540 إلى 720 مليون دينار سنويًا. "هيمنة الإنفاق الجاري" لا تزال تظهر بوضوح حيث أن أكثر من أربعة أخماس الموازنات العامة تُخصص للنفقات التشغيلية. هذه الحقيقة وحدها تدق ناقوس الخطر، لأن الموازنة تركز على الرواتب والتقاعد والدعم والخدمات اليومية، مع ضعف الاستثمار الرأسمالي، ما يؤدي إلى إعادة تدوير المال العام في حلقة مغلقة لا تُنتج نموًا اقتصاديًا ولا تُحسن بنية الخدمات. وهذا يؤكد بأنه لا نزال ولهذه اللحظة ندير الدولة بالاستهلاك لا بالإنتاج، وهو أحد وجوه "الهدر البنيوي".
 
المخصصات التي تُرصد ولا تُنفذ تمثل مشكلة كبيرة أيضاً، فهناك مخصصات تُرصد سنويًا ثم تُرحّل للعام التالي دون محاسبة، بدءًا من المشاريع الصغيرة وصولًا إلى مشاريع كبيرة لا تبدأ أو لا تنتهي. وهذا ليس مجرد تأخير إداري، بل نزيف مقنن للمال العام، لا يظهر في العجز المالي لكنه أكثر فتكًا به على المدى المتوسط. يظهر أيضاً بأن الخلل في التخطيط لا يقتصر على التنفيذ، بل يبدأ منذ إعداد الموازنة.
 
فالموازنات السنوية تعتمد غالبًا على دراسات سابقة وليس تقييمًا دقيقًا للأولويات. تُوزع الأموال كما وُزعت في العام الماضي، تُزاد أغلب البنود بلا مبرر تقني، وتُترك أخرى مفتوحة بلا ضوابط، والرابط بين التخطيط الاستراتيجي والتمويل غالبًا مفقود، كما غابت مؤشرات الأداء المبنية على النتائج، ما يخلق إدارة مالية مشوهة. تضخم الرواتب الحكومية يمثل استنزافًا كبيرًا، إذ يذهب بين 45% و48% من إجمالي الإنفاق الجاري على تعويضات العاملين، دون أي تحسن ملموس في إنتاجية الإدارة أو جودة الخدمات. بند التعويضات أصبح عبئًا ماليًا، ناتجًا عن غياب سياسات تقييم الأداء وربط الحوافز بالنتائج.
 
أما بالنسبة لخدمة الدين العام فهي إجمالاً تستهلك أكثرمن 20% من الإنفاق الجاري، ما يجعل الدولة تموّل التزامات ماضية بدل الاستثمار في المستقبل. جزء كبير من الهدر ناتج عن ضعف إدارة الدين وعدم وجود استراتيجيات لتقليل كلفته أو تمديد آجاله ضمن شروط أفضل، في الوقت الذي تراجعت فيه النفقات الرأسمالية إلى مستويات أقل من 13% في بعض السنوات.
 
كما أن ضعف الاستثمار التنموي والمشاريع غير المكتملة يظهر جليًا، إذ انخفضت النفقات الرأسمالية من 17.3% عام 2015 إلى 13.2% عام 2024 وارتفعت بموازنة العام الماضي فقط، رغم زيادة إجمالي النفقات. وبعض المشاريع تُنفذ دون دراسات جدوى واقعية، أو تتأخر لسنوات، أو لا تحقق أهدافها، ما يمثل هدراً مزدوجًا للموارد. وكثير من البنود الرأسمالية تشمل مصروفات تشغيلية على العاملين وشراء مستلزمات، لكنها لا تنتج أصولًا ثابتة أو بنية تحتية جديدة.
 
يلاحظ أيضاً بأن فاتورة التشغيل تتضخم في مؤسسات الدولة، خاصة في الطاقة والمرافق العامة، مع استهلاك متزايد للكهرباء والمياه والمحروقات والتنقلات، دون أي خطط ترشيد أو سياسات مستدامة. الفواتير المجمعة تظهر تضخمًا متزايدًا في كلفة تشغيل المباني الحكومية، ما يعكس غياب ثقافة إدارة المرافق وأنظمة تحفيز أو مساءلة للحد من الاستهلاك. بالاضافة الى ذلك فبنود استخدام السلع والخدمات والإيجارات تُصرف فيها الملايين سنويًا دون انعكاس ملموس على تحسين الخدمات أو تطوير بيئة العمل. وغالبًا ما تُنفق الأموال على تجهيزات مكتبية ولوازم تشغيلية وعقود خدمات خارجية دون خطة تطويرية أو ربط بالاحتياجات الفعلية، ما يحوّل الإنفاق إلى استنزاف دائم للموارد.
 
لا شك بأن غياب موازنات الأداء الفعلية يؤدي إلى فجوة بين التمويل والأثر. غالبًا ما تكون مؤشرات الأداء شكلية، لا تقيس المخرجات الفعلية ولا ترتبط بتحسين مستوى الخدمات أو رضا المواطنين. هذا الفراغ المؤسسي يسمح باستمرار البرامج والمخصصات دون مراجعة، فتستمر النفقات حتى وإن تآكلت جدواها، وتتوسع البنود رغم تراجع أثرها، ما يعزز ثقافة الاعتماد على الإنفاق لأجل الصرف لا لأجل التغيير. أي إنفاق لا يُقاس لا يُدار، وما لا يُدار لا يمكن إصلاحه.
 
لذلك، يتطلب إصلاح الإنفاق العام إطلاق برنامج وطني يحوّل الموازنة من وثيقة محاسبية إلى وثيقة أداء، يعتمد موازنات البرامج ويربط التمويل بمؤشرات قابلة للقياس. ويشمل الإصلاح مأسسة ترشيد الإنفاق ضمن القوانين، مراجعة العقود والتوظيف وربط التجديد السنوي بالأداء، وتوسيع نطاق نظام GFMIS ليشمل الوحدات المستقلة والبلديات، مع تفعيل تتبع المشتريات والمخزونات والتعاقدات. كما يجب تقليص النفقات الجارية المرتبطة بالاستهلاك الحكومي مثل الطاقة والإيجارات والمهمات الرسمية، وتحويل بعض الخدمات إلى نموذج الشراء مقابل الأداء، مع تدقيق الحاجة الوظيفية لكل بند. ويجب اعتماد مؤشرات دورية لقياس كفاءة الإنفاق مثل الكفاءة الفنية ونسبة الإنفاق الأمثل من الناتج المحلي، وإدراج نتائجها في تقارير الأداء السنوية لضمان تخصيص الموارد بعدالة وكفاءة وتحقيق التنمية المستدامة.
 
نكرر القول بأن من المهم قبل إعداد الموازنة العامة، أن نضع بين يدي المسؤولين عنها مجموعة من الملاحظات المبنية على المنهج العلمي، بهدف تحسين وتجويد السياسات المالية. فالنظريات الاقتصادية ليست مجرد أفكار نظرية وضعت جزافًا، بل هي نتاج معرفي مهم، مؤطر بصيغ علمية مدروسة، تساعد على الوصول إلى نتائج دقيقة وأكثر قربًا للواقع. فالواقع هو المعيار، إذ لا فائدة للعلوم إذا انسلخت عن الواقع المعاش وتحدياته!