أولويات الاقتصاد الأردني: من الرؤية إلى التنفيذ*د. رعد محمود التل
الراي
لم يعد النمو هدفًا نظريًا أو رقمًا في التقارير الرسمية، بل أصبح معيارًا حقيقيًا لقدرة الدول على تحسين حياة مواطنيها، خاصة حينما يكون للنمو أثر تشغيلي يخلق الفرص ويقلل من نسب الفقر. فجوهر السياسات الاقتصادية الناجحة لا يقوم فقط على تحقيق معدلات نمو أعلى، بل على جعل هذا النمو شاملًا ومستدامًا ينعكس على مستوى الدخل وفرص العمل ونوعية الحياة. ومن هنا تبرز أهمية وضوح الأهداف لدى صانع القرار، لأن غياب الرؤية الدقيقة يجعل السياسات تدور في حلقة من الإجراءات دون أثر حقيقي في الواقع.
ما نقصده أن تكون الأهداف محددة وواضحة أمام صانع السياسات العامة، وخاصة السياسات الاقتصادية. فالتحديات لا تنتهي، والضغوط تتعدد من كل جانب. والسعي نحو تحسين النمو الاقتصادي ليس هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة لتحسين حياة الناس، وزيادة الإيرادات وتحسين قدرة الدولة على ضبط العجز في الموازنة وخفض الدين العام وخدمته.
هذه الأهداف لا تحققها حكومة “تسيير أعمال”، بل حكومة “تغيير” تتخذ القرار بعد دراسة وتأنٍ، تراعي المحددات قصيرة المدى وتتبنى نظرة استراتيجية طويلة المدى. وتبدأ هذه العملية بتحديد أولويات اقتصادية واضحة تتماشى مع الأثر المباشر على النمو والتشغيل. لذلك، يجب أن يكون معيار الكفاءة في التنفيذ هو الأساس في أي تقييم للأداء الحكومي. فالكفاءة في التنفيذ والمعالجة هي التحدي الأكبر في الأردن، وغالبًا ما تسبق المال نفسه كعقبة أمام الإنجاز.
الرئيس جعفر حسان يدرك هذه الحقيقة جيدًا. ومن خلال الزيارات الميدانية التي غطت نحو 50% من بلديات المملكة خلال العام الأول، يسعى لتقييم الواقع بشكل مباشر. كما يملك رؤية استراتيجية للاقتصاد الوطني بجوانبه المختلفة، ويعي أن العام الأول من عمر الحكومة كان عامًا تأسيسيًا لإصلاح ملفات متراكمة وخلل إداري ومالي ممتد. فقد ورثت حكومته عجزًا ماليًا متوارثًا، ودينًا عامًا مرتفعًا بخدمة دين بضعف حجم الإنفاق الرأسمالي تقريبًا، إضافة إلى متأخرات قاربت 1.7 مليار دينار تُرحّل دون سداد.
العام الثاني سيكون عامًا فارقًا للحكومة، إذ يركز الرئيس على المشاريع الاقتصادية ذات القيمة المضافة والبُعد التنموي المرتبط بالأمن الوطني. فهناك حزمة مشاريع كبرى بقيمة تقارب 10 مليارات دولار ستبدأ العام القادم، تتركز في ثلاثة محاور رئيسية: الطاقة، والمياه، والنقل. وهي المحاور التي يحتاجها الأردن لبناء اقتصاد قوي ومنيع، ينعكس على جودة حياة المواطنين ويقلل من كلف الإنتاج.
ومن أبرز هذه المشاريع: مشروع الناقل الوطني للمياه، مشروع سكك حديد الأردن الذي يربط الميناء الصناعي في العقبة بمناطق التعدين من منجم الفوسفات في الشيدية ومصانع البوتاس في غور الصافي، خط غاز الريشة، إضافة إلى مشاريع الطاقة والنقل العام. هذه المشاريع تمثل أولوية استثمارية للمرحلة المقبلة، ليس فقط لأنها بنية تحتية، بل لأنها تمثل رافعة للنمو الاقتصادي وتعزيز الاستقلالية الإنتاجية.
إن التحدي الأكبر أمام أي حكومة لا يكمن في وضع الخطط، بل في امتلاك الجرأة على تنفيذها بكفاءة وشفافية. فالنمو الحقيقي لا يتحقق بالشعارات ولا بالقرارات الجزئية، بل بقدرة الدولة على تحويل مشاريعها الكبرى إلى نتائج ملموسة في حياة الناس.
كل هذه التفاصيل يعيها الرئيس جعفر حسان تماماً ويعي أن الحكومة اليوم أمام اختبار التنفيذ، اختبار يعيد الثقة بين المواطن والدولة، ويحدد إن كان الأردن سينتقل فعلًا من مرحلة إدارة الواقع إلى مرحلة صناعة التغيير.