الدستور
لا يُهان الذهب إذا لم يجد من يشتريه- من رواية أوراق شمعون المصري، أسامة الشاذلي.
شأني شأن الملايين الذين يبهرهم بريق الذهب ويبحثون عن فرصة لتحسين دخلهم المتناقص، أتابع حركة الذهب يوميًا، لعلّي أظفر من خلالها بفرصة ما لم أدركها بعد!
شهدتُ أسعار الذهب هذا العام ارتفاعًا مذهلًا، إذ تجاوزت حاجز الأربعة آلاف دولار، ووصلت قبل أيام إلى نحو أربعة آلاف وثلاثمئة دولار، وهو أعلى مستوى يبلغه الذهب في تاريخ البشرية المدوَّن. وقد تزامن ذلك مع تراجع قياسي في قيمة الدولار الأمريكي بنسبة بلغت 11%، وسط توقّع من بنك «مورغان ستانلي» بانخفاضٍ إضافي يقارب 10% مع اقتراب نهاية هذا العام الذي بات على الأبواب.
شعرتُ، كما شعر الجميع، بالرعب ولا سيما المقبلين على الزواج أو من يملكون حساباتٍ عامرة بالدولار الأمريكي إذ غدت الأسواق فوضوية على نحوٍ غير مسبوق. لذلك بدأت أبحث عن الأسباب وراء ما يحدث، وأحببت أن أُشرك القارئ المهتم وهم كُثُر كما أعلم بما توصلت إليه.
السبب الأول هو الصين، إذ قامت بشراء كميات من الذهب تفوق احتياطها السابق بنحو خمسةٍ وعشرين ضعفًا. ولم يقتصر الأمر على الصين وحدها، فالبنوك في شتى أنحاء العالم تتسابق هي الأخرى إلى شراء الذهب، وقد بلغت مشترياتها حتى الآن نحو تسعمائة طن. إنها المرة الأولى منذ نصف قرن التي تمتلك فيها البنوك ذهبًا يفوق في قيمته ما تملكه من السندات الأمريكية، وفقًا لتقرير صادر عن مجموعة «أي بي سي» المالية. ويُضاف إلى ذلك أنه، منذ شهر آذار الماضي، بدأت موجة واسعة من عمليات بيع سندات الخزينة الأمريكية، إذ باعت البنوك ما يقارب ثمانيةً وأربعين مليار دولار في النصف الأول من عام 2025، لتسجّل بذلك أدنى حيازة لها من هذه السندات منذ عام 2017.
وهنا يطرح نفسه سؤال جوهري: ما الذي يدفع الجميع إلى التخلي المفاجئ عن الدولار والارتماء في أحضان الذهب؟
وفي أثناء بحثي، وجدت أن جذور الأمر تعود إلى عام 2022، حين جمّد الغرب أصول البنك المركزي الروسي، والتي بلغت نحو 335 مليار دولار، وأخرجه من نظام «سويفت» في سابقةٍ تاريخيةٍ لم يُقدِم عليها حتى مع ألمانيا النازية. اعتقد الغرب آنذاك أنه قد وجّه لروسيا الضربة القاضية، غير أنه تبيَّن لاحقًا أن ذلك كان من أكبر الأخطاء في التاريخ الاقتصادي الحديث. فقد أثار ذلك القرار فزعًا واسعًا لدى البنوك المركزية حول العالم، إذ كانت الرسالة واضحة: احتياطاتكم من الدولارات ليست ملككم، ويمكن تجميدها بضغطة زر.
لم تكتفِ الصين باكتناز الذهب وإضعاف الدولار عبر بيع أذونات الخزينة الأمريكية، بل مضت أبعد من ذلك، فأنشأت بورصة البريكس للمعادن الثمينة التي أُطلقت هذا الشهر، وتستهدف الدول التي تتداول الذهب والبلاتين والمعادن النادرة من دون الحاجة إلى استخدام الدولار، وفقًا لتقرير نشرته بلومبيرغ. وقد بدأ تأثير هذه الخطوة يتجلى بالفعل، إذ إن نحو 68% من تجارة دول البريكس اليوم لا تُجرى بالدولار، بينما هبطت احتياطيات العالم من العملة الأمريكية إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2000.
ومما زاد الطين بِلّة إعلانُ ترامب الحربَ الاقتصادية على الصين، فبادرت الأخيرة إلى زيادة مشترياتها من الذهب، وواصلت بيع سندات الخزينة الأمريكية، وهي التي تمتلك أكبر رصيد منها في العالم. ثم ضيّقت الصين الخناق على تصدير المعادن النادرة، وهي المواد الأساسية في صناعة الرقائق الإلكترونية والسيارات الكهربائية والأسلحة. وردّ ترامب بفرض رسومٍ جمركية إضافية بنسبة 100% على جميع الواردات الصينية، اعتبارًا من الأول من الشهر المقبل.
يتوقّع تقرير غولدمان ساكس أن يصل سعر الذهب إلى نحو 4900 دولار بحلول عام 2026، فيما تشير تقارير أخرى إلى أرقامٍ أعلى، قد تبلغ 5000 دولار في الشهر المقبل، وربما تصل إلى 10,000 دولار بحلول عام 2028.
يبدو أن الامتياز الذي تمتعت به الولايات المتحدة منذ عام 1971، والمتمثّل في طباعة الدولارات من دون غطاء ذهبي، قد بدأ ينهار. وقد عبّر الخبير الاقتصادي في جامعة هارفارد كينيث روغوف عن ذلك بقوله: «على الأمريكيين أن يستعدوا لما هو قادم أسعار فائدة أعلى، وقروض عقارية أكثر كلفة، وبطاقات ائتمان وقروض تجارية بتكاليف متزايدة.»
ويبدو أن السحر قد انقلب على الساحر؛ فمعاقبة روسيا، والحرب الاقتصادية على الصين، سرّعتا بانهيار النظام المالي العالمي. وها هو الجميع اليوم يسارع إلى البحث عن الملاذ الآمن، ذاك الذي كان ولا يزال عبر التاريخ الذهب!
لكنّ أكبر اقتصادَين في العالم أدركا أن حربهما ألحقت بهما أذًى بالغًا، وأيقن ترامب أنه لا يستطيع هزيمة الصين اقتصاديًا. ولذلك، من المقرّر أن يلتقي اليوم الرئيس ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ، في محاولةٍ للابتعاد عن حافة الهاوية التي بلغها الطرفان.
لذا، عزيزي القارئ، إن أردت معرفة مستقبل الدولار والذهب، فعليك أن تتابع نتائج هذا الاجتماع وما سيعقبه، فهو الاجتماع الذي سيحدّد ليس فقط مصير الدولار والذهب بل مستقبل البشرية بأسرها.