الغد-إيمان الفارس
يشهد العالم تحولا متسارعا بالتعامل مع مياه الصرف الصحي، من مجرد معالجتها وتصريفها إلى استعادة الموارد الكامنة فيها وتحويلها لطاقة ومواد ذات قيمة اقتصادية.
ويأتي هذا التحول في ظل تحديات المناخ وتراجع الموارد المائية وارتفاع كلفة الطاقة والمواد الخام، ما يفرض على الدول، ومنها الأردن، إعادة النظر بإدارة مرافق المياه والصرف الصحي، لتتحول من مراكز معالجة تقليدية إلى منصات إنتاج تدعم الاقتصاد الدائري وتقلل الاعتماد على المصادر الخارجية.
ففي السياق الأردني، تمثل أزمة المياه المتفاقمة وارتفاع كلفة الطاقة، دافعا أساسيا لاعتماد نهج جديد يقوم على تعظيم الاستفادة من مياه الصرف الصحي المعالجة.
فأصبحت هذه المياه، التي تنتجها محطات المعالجة في مختلف مناطق المملكة، موردا إستراتيجيا يمكن إعادة توظيفه بالزراعة والصناعة وإنتاج الطاقة، مما يخفف الضغط على الموارد العذبة المحدودة.
وتبلغ كميات المياه المعالجة بالأردن نحو 200 مليون م3 سنويا، تستخدم غالبيتها، بنسبة تصل لـ 90 %، بالري والصناعة، فيما تسعى الإستراتيجية الوطنية للمياه للأعوام 2023-2040 لتعزيز كفاءة التشغيل وتحسين إدارة الحمأة الناتجة عن عمليات المعالجة، والتي تصل كميتها لنحو 100 ألف طن سنويا، وتهدف هذه الإستراتيجية لتحويل الحمأة من عبء بيئي إلى مورد يمكن استخدامه في إنتاج الطاقة وتحسين خصوبة التربة.
وفي هذا السياق، أشار خبراء في قطاع المياه لـ "الغد"، لاحتواء مياه الصرف الصحي على مكونات ذات قيمة عالية مثل النيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم والمعادن العضوية، إلى جانب المياه القابلة لإعادة الاستخدام.
وأشاروا لدور تلك المكونات بإتاحة فرص كبيرة لإنتاج الطاقة والسماد الحيوي واسترجاع المواد الخام، عبر تقنيات مثل الهضم اللاهوائي لإنتاج الغاز الحيوي، أو التحويل الحراري لإنتاج الزيت الحيوي والغاز الصناعي والفحم الحيوي.
لكنهم نبهوا أيضا من مواجهة هذا التحول لمجموعة من التحديات التقنية والاقتصادية والتنظيمية.
وعلى المستوى الدولي، أكدت الرابطة الدولية للمياه (IWA) في تقرير صدر عنها أخيرا وحصلت "الغد" على نسخة منه، أهمية التحول من نهج المعالجة التقليدية إلى نهج التحويل والاستعادة، بالمساهمة بتغيير جذري في مفهوم إدارة الموارد المائية.
وأشار التقرير لدور هذا التحول بانتقال المرافق من كونها مؤسسات خدمية إلى كيانات إنتاجية تسعى لتحقيق قيمة اقتصادية ضمن إطار من الحوكمة والابتكار المسؤول، ورأت الرابطة أن هذا التوجه لا يقتصر على الجوانب التقنية، بل يمثل إعادة صياغة شاملة لأنظمة المياه، من فكرة التخلص إلى فكرة الإنتاج، ومن تكاليف التشغيل إلى توليد القيمة الاقتصادية.
ولفت لاعتماد نجاح هذا التحول على بناء منظومة متكاملة تضم المرافق العامة والقطاع الخاص ومزودي التكنولوجيا والممولين، بحيث تصبح محطات الصرف الصحي منصات صناعية قادرة على إنتاج المياه والطاقة والمواد الحيوية، ما يجعلها جزءا محوريا من الاقتصاد الدائري العالمي.
التحولات المناخية فرضت واقعا جديدا
وفي سياق التحول العالمي في التعامل مع مياه الصرف الصحي من مجرد عالجة وتصريف إلى استعادة الموارد وتحويلها إلى طاقة ومواد ذات قيمة اقتصادية، أكد الخبير الدولي في قطاع المياه د. دريد محاسنة، أن التحولات المناخية العالمية كانت قد فرضت واقعا جديدا على مختلف دول العالم.
وتابع، إن التحولات المناخية العالمية أدت لارتفاع درجات الحرارة وزيادة الغازات الدفيئة بالغلاف الجوي، ما تسبب بذوبان الجليد في القطبين وارتفاع مستوى سطح البحر، ومن ثم تراجع كميات الأمطار وتناقص موارد المياه السطحية والجوفية نتيجة ازدياد معدلات التبخر.
وأضاف، أن هذا الواقع كان قد فرض على الأردن، الذي واجه واحدة من أشد أزمات المياه عالميا، أن يتجه بجدية نحو تعظيم الاستفادة من مياه الصرف الصحي المعالجة، ليس فقط بوصفها بديلا جزئيا لمصادر المياه التقليدية، بل كمورد إستراتيجي يمكن تحويله لعنصر دعم للاقتصاد الوطني عبر استعادة الموارد والطاقة منها.
وأشار إلى أن استخدام المياه المعالجة في الزراعة شكّل الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، موضحا أن الأردن اعتمد بالفعل على مياه الصرف الصحي المعالجة في ري بعض المحاصيل في مناطق الأغوار، إلا أن حجم الاستفادة ظل محدودا ولم يرق إلى المستوى المأمول.
وبين أن محطات مثل محطة "زي" للصرف الصحي قدمت نموذجا نوعيا لإنتاج مياه معالجة بجودة عالية صالحة للاستخدام الزراعي، مما برهن على إمكانية توسيع هذا النهج في مختلف محطات المعالجة.
وشدّد الخبير الدولي في "المياه"، على أن زيادة الاعتماد على مياه الصرف الصحي في الزراعة والصناعة كانت تمثل ضرورة وطنية عاجلة، لأنها أتاحت توجيه المياه العذبة ومياه الأمطار للاستخدامات المنزلية ومياه الشرب، بخاصة في ظل التوقعات التي أشارت إلى انخفاض كميات الهطل المطري خلال السنوات اللاحقة.
ولفت لأن الأردن اعتمد جزئيا على موارد مائية خارج حدوده، إذ جاءت نسبة من حصته من المياه من سورية وأخرى من فلسطين عبر اتفاقية السلام مع الكيان، وهو ما جعل تحسين إدارة واستخدام مياه الصرف الصحي المعالجة خيارا لا بديل عنه لتحقيق الأمن المائي والاقتصادي في آن واحد.
ورأى بأن التحول نحو مرافق صرف صحي قائمة على استعادة الموارد، كان سيسهم بتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية وتعزيز مبادئ الاقتصاد الدائري، عبر إنتاج المياه والطاقة والمواد ذات القيمة الاقتصادية من محطات المعالجة، مع ضرورة تهيئة البيئة التقنية والمؤسسية والاقتصادية الكفيلة بإنجاح هذا التحول ضمن السياق الأردني.
توجه إستراتيجي
بدوره، أكد الخبير الدولي في قطاع المياه م. محمد ارشيد، أن التحول العالمي بالتعامل مع مياه الصرف الصحي من مجرد معالجة وتصريف إلى استعادة الموارد وتحويلها إلى طاقة ومنتجات ذات قيمة اقتصادية، يمثل توجها إستراتيجيا يجب أن يتبناه الأردن في ظل تفاقم أزمة المياه وارتفاع كلف استيراد الطاقة والمواد الخام.
وأشار، إلى أن مياه الصرف الصحي تتكون أساسا من مواد عضوية ومواد مغذية مثل النيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم، إضافة إلى الأملاح والمعادن والمياه القابلة لإعادة الاستخدام، ما يجعلها مصدرا متكاملا يمكن الاستفادة منه في إنتاج الطاقة واستعادة الموارد وتحقيق قيمة اقتصادية مضافة.
وأوضح أن تحويل مياه الصرف الصحي إلى طاقة يمكن أن يتم عبر مسارات تقنية متعددة، أبرزها الهضم اللاهوائي أو ما يعرف بـ Anaerobic Digestion لإنتاج غاز الميثان الذي يمكن تشغيله لتوليد الكهرباء والحرارة، كما يمكن تنقيته واستخدامه كغاز حيوي ووقود للنقل، فيما تستغل النواتج الصلبة المتبقية كسماد عضوي.
وأشار لإمكانية إنتاج الهيدروجين الحيوي كأحد أشكال الطاقة النظيفة المتجددة، وذلك توازيا وتقنيات التحويل الحراري التي تعتمد على تجفيف الحمأة وتحويلها إلى طاقة عبر التحليل الحراري لإنتاج زيت حيوي وغاز وفحم حيوي، إضافة إلى غاز اصطناعي يمكن حرقه مباشرة أو تحويله إلى وقود سائل.
ولفت، لإمكانية استخراج مواد ذات قيمة اقتصادية من مياه الصرف الصحي مثل استرجاع الفوسفور والنيتروجين لإنتاج الأسمدة الكيماوية، إلى جانب إعادة استخدام المياه المعالجة بالري والتبريد الصناعي، ما يسهم بتقليل الضغط على الموارد الطبيعية المحدودة.
أما على صعيد التحديات، فرأى أن هناك صعوبات تقنية تتمثل بتقادم البنى التحتية للعديد من محطات المعالجة، إضافة لنقص الخبرات المحلية في تشغيل وصيانة الأنظمة المتقدمة مثل الهضم اللاهوائي أو استخلاص المغذيات، فضلا عن محدودية جودة الحمأة في بعض المحطات نتيجة اختلاط مياه الصرف الصحي بمصادر غير منزلية.
وفي الجانب الاقتصادي بين أن التحدي الأكبر يكمن في ارتفاع كلفة الاستثمار الأولي في التقنيات الحديثة وضعف الحوافز الاقتصادية للمستثمرين في قطاع المياه وصعوبة تحقيق جدوى مالية مباشرة من مشاريع استعادة الموارد دون وجود دعم حكومي واضح ومستدام.
كما لفت لتحديات تنظيمية ومؤسسية تتمثل في غياب إطار تشريعي واضح يعرّف المنتجات الثانوية الناتجة عن معالجة مياه الصرف الصحي كموارد آمنة وقانونية يمكن تداولها، إضافة إلى تداخل الصلاحيات بين الجهات المعنية مثل وزارات المياه والري والبيئة والزراعة والبلديات، إلى جانب ضعف الوعي العام تجاه تقبل استخدام المياه المعالجة ومنتجاتها في الزراعة أو الصناعة.
ورأى أن الحل يكمن في تطوير إطار وطني لاقتصاد المياه الدائري يتضمن سياسات واضحة لإعادة الاستخدام الآمن وتسعيرا عادلا للمياه المعالجة ودعما فعّالا للمشاريع الريادية في هذا المجال، إلى جانب إطلاق مشاريع تجريبية لتطبيق نماذج عملية لاستعادة الطاقة والسماد وتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وبناء القدرات المحلية وتدريب المهندسين والفنيين على إدارة وتشغيل محطات استعادة الموارد بكفاءة واستدامة.
وأكد أن تبني هذا التوجه سيحوّل مرافق الصرف الصحي في الأردن من مراكز معالجة تقليدية إلى منصات إنتاج فاعلة تدعم الاقتصاد الدائري الوطني وتقلل الاعتماد على المصادر الخارجية من الطاقة والمواد الخام، وتسهم في تعزيز الأمن المائي والطاقي والغذائي في المملكة.
من جانبه، شدد الأمين العام الأسبق لوزارة المياه والري م. إياد الدحيات، على أهمية مضمون الإستراتيجية الوطنية للمياه للأعوام 2023-2040، والتي أشارت لضرورة رفع فعالية وكفاءة عمليات تشغيل الصرف الصحي عبر برنامج مستدام يعتمد نموذجا يحاكي نماذج الاقتصاد الدائري.
وقال الدحيات إن 31 محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي في جميع أنحاء المملكة، تعمل على إنتاج نحو 200 مليون م3 من المياه المعالجة عالية الجودة سنويا، تستخدم إما بشكل مباشر أو بعد خلطها بمياه عذبة، حيث يتم استخدام ما نسبته 90 % منها لأغراض الري والصناعة.
وأشار إلى مساهمة اتساع عمليات معالجة مياه الصرف الصحي في ازدياد الحاجة للعمل على تحسين إدارة الحمأة الناتجة، إذ يتم حاليا إنتاج نحو 100 ألف طن من الحمأة المجففة سنويا من هذه المحطات مجتمعة، وهي مادة تمثل المكون الصلب بعد فصل المياه وتشكل عبئا على البيئة، الأمر الذي تسعى الإستراتيجية الوطنية إلى معالجته عبر التخلص من الحمأة بشكل غير مضر بيئيا والاستفادة منها في مجالات متعددة.
وأوضح أن تصميم عمليات معالجة أنظمة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها في مشاريع محطات الصرف الصحي الممولة من موازنة قطاع المياه، يتم حاليا بناء على الاحتياجات المحددة لقطاعات الري والعمليات الصناعية.
وبين أن هذه العمليات تشمل أيضا استخراج الموارد المفيدة مثل الحمأة المفيدة كمواد مغذية أو كمصدر للطاقة من مياه الصرف الصحي، موضحا أن الهدف من ذلك هو إنشاء حل مستدام يسهم في تقليل استهلاك المياه والحد من هدرها، واستعادة الطاقة من عمليات المعالجة إلى جانب استخراج الموارد القيمة من مياه الصرف الصحي لإعادة استخدامها بما يحقق فائدة بيئية واقتصادية في آن واحد.
وأضاف الأمين العام الأسبق لـ "المياه والري"، أن هذا النموذج تم اعتماده في محطة تنقية الخربة السمراء، مشيرا إلى أن مبادئ هذا النموذج تقوم على الشراكة مع القطاع الخاص لضمان الكفاءة التشغيلية لمحطات الصرف الصحي في إنتاج مياه معالجة ذات جودة عالية لإعادة الاستخدام، بالإضافة إلى اعتماد خيار محطات صرف صحي مركزية تستقبل مياه صرف من مراكز سكانية كثيفة يتحقق معها الجدوى الاقتصادية في كلف المعالجة، مع الاستفادة من الحمأة لتوفير الطاقة كمصدر غير تقليدي.
وأوضح أن محطة تنقية الخربة السمراء تعالج ما نسبته 70 % من مياه الصرف الصحي في المملكة وتنتج 140 مليون م3 من المياه المعالجة عالية الجودة للاستخدام في الأغوار الوسطى.
كما يتم الاستفادة من الحمأة المعالجة في توفير ما نسبته 35 % من احتياجات الطاقة الكهربائية في المحطة، مما يسهم في تخفيض الانبعاثات الكربونية الناتجة عن عمليات التشغيل، إلى جانب الاستفادة من بقايا الحمأة في تحسين نوعية التربة في الموقع عبر طمرها في مواقع محددة واستخلاص أي طاقة إضافية منها، وفق الدحيات.
وأشار الدحيات إلى أمثلة أخرى تتبنى مفهوم الاقتصاد الدائري في قطاع المياه والصرف الصحي، كما تم تنفيذه سابقا عبر منظمة الأغذية والزراعة بالتعاون مع الأمم المتحدة في مخيم الزعتري، حيث جرى تنفيذ نظام تجريبي لإدارة النفايات يعتمد نموذج الاقتصاد الدائري باستخدام الموارد الناتجة عن العمليات المترابطة، حيث يتم استخدام السماد والغاز الحيوي والكهرباء ومياه الصرف الصحي المعالجة من محطة معالجة المياه الموجودة في المخيم لتوفير شتلات الأشجار، إذ ساهم هذا النموذج في خلق فرص عمل للاجئين والمجتمعات المضيفة على حد سواء.
وأوضح أن نموذج الاقتصاد الدائري لإدارة النفايات في مخيم الزعتري يجمع بين إدارة النفايات ومعالجة الحمأة وتوليد الطاقة وإنتاج الشتلات لإعادة تأهيل الغابات والمراعي في المجتمعات المضيفة، كما يتيح هذا النموذج توليد الإيرادات وخلق فرص عمل خضراء وخفض تكلفة إدارة النفايات.
وأكد أن هذا النموذج يشكل نهجا قويا وفعالا في الجمع بين العمل الإنساني والتنمية، إذ يعمل على تعزيز قدرة اللاجئين والمجتمعات المضيفة على الصمود عبر توفير فرص لتوليد الدخل وتطوير حلول مبتكرة لزيادة إنتاج الطاقة الموثوقة وتقليل الضغط على المياه والأراضي وتحسين استدامة الغابات والمراعي التي تمت إعادة تأهيلها.