"خريطة العطش" تتسع.. وفاتورة المياه تدفع مرتين
الغد-تحقيق: سارة بواعنة
ربما كان الاتصال الهاتفي الأكثر تكرارًا لدى عائلات أردنية مؤخرا هو بسائق صهريج المياه. مكالمة هاتفية روتينية للاتفاق على السعر والموعد، لتبدأ طقوس الانتظار المألوفة لمياه تُنقل على عجلات، بفاتورة نقدية تُضاف إلى أخرى رسمية، مقابل خدمة غائبة أو شبه معدومة.
ومبعث هذه الاتصالات المتكررة بشكل دوري لا تتعلق بانقطاع مؤقت للمياه، بل يكشف خللاً هيكليًا في منظومة خدمة أساسية تتمثل بتوفير المياه للمنازل.
هذا الواقع نتجت عنه "سوق سوداء" دفعت بالمواطن إلى الرضوخ لأسعار أصحاب الصهاريج، مع زيادة في الاعتداءات على ساعات المياه، كحل بديل يجد فيه مواطنون مهربا من تحكم صاحب الصهريج.
حجم هذه الاستخدامات غير المشروعة تعكسه أرقام شركة "مياهنا"، عندما تؤكد أنه في العاصمة عمان والمناطق المحيطة، بلغ الفاقد المالي للشركة 258 مليون دينار خلال الفترة (2019-2021)، وفق التقرير السنوي لديوان المحاسبة لعام 2023.
وفي الشمال، وصلت نسبة الفاقد المائي في إربد إلى 45 % خلال العام الحالي، بحسب شركة مياه اليرموك، أي "إن قرابة نصف المياه تُفقد قبل أن تصل إلى المنازل"، بحسب مدير الإعلام في الشركة معتز عبيدات.
هذه الفجوة المالية الضخمة الناجمة عن الاستخدامات غير المشروعة، تحولت إلى عبء مباشر على المواطنين الذين يبنون بنية تحتية خاصة بهم - آبار ومضخات وأنظمة تعقيم - كشكل آخر من المشكلة، وسط سوق صهاريج غير منظم، في خريطة عطش تمتد من أقصى الجنوب حتى الشمال مرورًا بالعاصمة.
من الجنوب إلى الشمال.. مشكلة بلا نهاية
في ماركا الشمالية بالعاصمة عمّان، تعاني ميسم (اسم مستعار) من انقطاع متواصل منذ آب (أغسطس) الماضي، حيث تعتمد على الصهاريج التي تصل تكلفتها 30 إلى 40 دينارًا شهريًا، ولا تستطيع حفر بئر أو تركيب خزان أرضي كونها مستأجرة.
وفي منطقة الجندويل، يواجه أحمد ضعفًا شديدًا في المياه خلال الصيف، ما يضطره لشراء صهريج كل أسبوعين بـ20 دينارًا للواحد منها، وعندما راجع الجهات الرسمية، جاءه الرد من مركز الشكاوى: "روح اشكي علينا".
وتواصلت "الغد" مرارًا مع الناطق الإعلامي لوزارة المياه، إلا أنها لم تتمكن من الحصول على إجابات حول أسباب الانقطاع الطويل للمياه أو الإجراءات المزمع اتخاذها لمعالجة الأزمة.
وفي مشهد مماثل في الجنوب في قرية الثغرة بمحافظة معان، يعيش محمد المناجعة وعائلته على مترين مكعبين من المياه أسبوعيًا تُنقل عبر صهاريج مجانية، وهي الخدمة ذاتها منذ العام 1995، رغم وعود رسمية متكررة منذ العام 2011 واعتصامات نفذها الأهالي، لكنهم ما يزالون ينتظرون ضخ المياه عبر شبكة جاهزة وخزان تم بناؤه عام 2022.
يقول المناجعة: "الشبكة جاهزة، والخزان جاهز، والخط الرئيسي واصل، لكن ما في ضخ.. وين الخلل؟ ما بنعرف".
أما المياه الواصلة عبر الصهاريج، فيؤكد أنها "غير صالحة للشرب أبدًا، فهي عكرة ولونها كلون الحليب".
أما في الحي الشرقي بإربد، فالأزمة جزء من الحياة اليومية منذ أكثر من 15 عامًا، كما يقول أحمد مناصرة: "ندفع 40 إلى 50 دينارًا كل أسبوعين، والمياه الرسمية ما بتوصل، حتى صرنا ما ندفع الفاتورة أصلًا".
ويضيف شقيقه عبدالله: "آخر مرة شفت فيها المي تجي طبيعي يمكن قبل 25 سنة.. صارت المي ذكرى".
ويشير بعض السكان إلى أن توزيع المياه يختلف من منطقة إلى أخرى، إذ تحصل بعض المنازل على كميات إضافية أو وصول أسرع مقارنة بأخرى، ما يترك شعورًا بعدم المساواة في الحصول على الخدمة.
ويؤكد المواطنون أن هذه الاختلافات تزيد من معاناتهم، إذ يجدون أنفسهم مضطرين للاعتماد على صهاريج المياه الخاصة لتغطية احتياجاتهم، بينما يحصل آخرون على المياه بانتظام دون مواجهة الصعوبات نفسها، وتعكس هذه الملاحظات تحديًا واضحًا في ضمان العدالة والشفافية في توزيع الموارد المائية.
فاتورتان للماء.. للحكومة والصهريج
لا يعني الخلل في الخدمة غياب المياه فقط، بل تحميل المواطن عبئًا ماليًا مضاعفًا، ففي الوقت الذي يدفع فيه الأردنيون فواتير رسمية لشركات توزيع المياه، يضطرون إلى دفع مبالغ إضافية للحصول على الماء من الصهاريج الخاصة، في مفارقة تختصر مأساة العدالة في التوزيع.
ومن الجنوب إلى الشمال، يبقى العطش مرآة لخلل إداري واقتصادي وحقوقي، بينما يشرب مواطنون كثر ماء مكلف الطعم، لا لملوحته، بل لثمنه المرتفع وغيابه الطويل.
ويقول عبدالله مناصرة: إنهم اضطروا لبناء منظومة مائية متكاملة على نفقتهم: "الآبار والمضخات والكلور كلفتنا آلاف الدنانير".
وتشير تقديرات إلى أن تكلفة حفر بئر تجميعية بسعة 120 مترًا مكعبًا تتجاوز 4000 دينار، في ظل غياب الخدمة العامة.
فيما دفع علي خالد مبلغا تجاوز الـ4000 دينار لحفر بئر بجانب منزله ليتمكن من حل مشكلة انقطاع المياه لفترات طويلة.
العبء لم يقتصر على حفر البئر وحدها، بحسب علي، وإنما بدفع مبلغ شهري ليس قليلا لتعبئته من صهاريج المياه.
الرواية الرسمية: "التزامنا ينتهي عند العداد"
مدير الإعلام في شركة مياه اليرموك معتز عبيدات ينفي الاعتماد الكلي على الصهاريج منذ 15 عامًا، ويصفها بـ"الحالات الفردية"، مؤكدًا أن الوضع المائي في إربد "أفضل من العام السابق".
ويقول عبيدات: "التزام الشركة ينتهي عند العداد، وبعدها المواطن لازم يدبر حاله".
ويحثّ المواطنين على تأمين خزانات أرضية بدل شراء الصهاريج، مضيفًا إن بإمكان المتضررين تقديم "فيشة (فاتورة)" للحصول على صهريج مدعوم خلال 72 ساعة.
غير أن عبيدات، يؤكد أن نسبة الفاقد المائي في "اليرموك" تصل إلى 45 % نتيجة الاعتداءات على الخطوط والاستخدامات غير المشروعة، مشيرًا إلى مشروع بقيمة 36 مليون يورو لتبديل شبكة لواء بني كنانة.
سوق الصهاريج.. فوضى الأسعار وغياب التنظيم
منذ عام 2012، ورغم تحديد سعر المتر المكعب من المياه بـ3.15 دينار، لكن المواطنين يدفعون أضعاف ذلك.
يقول أحمد من "الجندويل" إنه اتفق مع سائق صهريج على سعر، ليتفاجأ بمضاعفته بعد التعبئة، وميسم من "ماركا" تؤكد أن سعر الصهريج يرتفع من 8 دنانير نهارًا إلى 12 ليلًا.
سيف جنيدي، أحد أصحاب الصهاريج، يوضح أن أصل الأزمة عند أصحاب الآبار الذين رفعوا السعر من 0.75 دينار إلى دينارين للمتر المكعب، رغم أن السعر الرسمي لا يتجاوز 0.25 دينار.
يقول جنيدي: "أنتظر سبع ساعات أحيانًا في الزرقاء حتى أعبي صهريج واحد، والوقت والبنزين علينا"، ويضيف: "ما في تنظيم، كل سائق بيشتغل لحاله، وما في جهة تمثلنا".
حق لا مجرد خدمة
لكن المياه حق إنساني قبل أن تكون خدمة، وفي هذا الصدد تؤكد خبيرة حقوق الإنسان نهلة المومني أن الحق في الحصول على المياه "جزء من الحق في مستوى معيشي ملائم"، وهو حق مكفول بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي صادق عليه الأردن.
وتشير المومني إلى أن المساس بحق الأفراد في المياه يُعد إخلالًا بحقوقهم الأساسية في الصحة والبيئة والكرامة والتنمية المستدامة.
وتدعو إلى وضع تشريعات ومعايير واضحة لتوزيع المياه بعدالة، وفرض عقوبات رادعة على أي إخلال بها، مع دراسة تأثيرات التغير المناخي والهدر المائي بشكل جاد.
خبراء: الأزمة المائية مركّبة
يرى الخبير المائي دريد محاسنة أن أزمة المياه في الأردن "أعمق من ندرة الموارد"، موضحًا أن جذورها تمتد من تراجع حصة الأردن من مياه نهر اليرموك مرورا بانخفاض مخزون السدود، وصولًا إلى توزيع غير عادل.
ويشير محاسنة إلى أن الزراعة تستهلك 60 % من الموارد المائية، وأن تصدير المنتجات الزراعية يعني "تصدير مياهنا إلى الخارج بشكل غير مباشر".
ويحذر من أن "الاقتصاد الموازي" الذي خلقه سوق الصهاريج غير المنظم مرشح للاستمرار والتفاقم طالما استمر العجز في التوزيع الرسمي.
ويؤكد أنه في بلدٍ يعرف العطش أكثر مما يعرف الوفرة، يدفع الأردني ثمن الماء مرتين؛ مرة حين تنقطع عنه الخدمة، ومرة حين يشتريها من السوق السوداء.
عموما، من الجنوب إلى الشمال، يسير الماء مثقلاً بالوعود، يتسرّب من الأنابيب كما تتسرب الثقة بالقرارات الرسمية من قلوب الناس، لأنها تكشف منظومة متآكلة من الإدارة والرقابة والعدالة، فهل الحل يحتاج إلى وقت طويل؟