من وادي السيليكون إلى وادي رم: حين يصبح الأردن مركزًا للابتكار؟*حسام الحوراني
الدستور
في الصحراء الجنوبية من الأردن، حيث ترتفع الجبال الحمراء وتُلامس الرمال زرقة السماء، ينبثق سؤالٌ في اعماق نفسي: هل يمكن أن يصبح وادي رم – رمز الجمال البدوي – مرادفًا جديدًا لوادي السيليكون، ذلك المهد الأسطوري للتكنولوجيا والابتكار في كاليفورنيا؟
قد يبدو هذا الطرح ضربًا من الحُلم... لكنه حُلم مشروع. فالدول لا تُبنى على الإمكانيات فقط، بل على الإيمان بقدرتها على التحول، وعلى عقول تؤمن أن الجغرافيا لا تحدّ الطموح، بل تشكّله.
لنتأمل قليلاً، ما الذي جعل وادي السيليكون «واديًا للسيليكون» أصلًا؟ هل هي الجبال أم الأنهار؟ لا. بل كانت بيئة مشجعة على التجريب، منظومة تعليمية تؤمن بالأسئلة لا الأجوبة الجاهزة، وسياسات احتضنت العقول الطموحة بدل أن تُثقلها بالبيروقراطية. فهل تنقصنا هذه العناصر في الأردن؟ الجواب المختصر: لا. ولكننا بحاجة لإعادة توزيع مواردنا الذهنية والمادية، والتوقف عن الهجرة إلى الخارج والبدء بالهجرة إلى المستقبل.
في الأردن، لدينا عقولٌ لامعة، وطاقاتٌ شبابية تتقن لغات العصر الرقمي، وتفهم مفردات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية وريادة الأعمال. من الجامعات إلى مراكز الابتكار، ومن الشركات الناشئة إلى المبادرات التطوعية، هناك تيار صاعد من المبدعين الذين لا ينقصهم سوى «الإطار الحاضن» الذي يحوّلهم من طاقات معطلة إلى صُنّاع للنهضة.
وادي رم، بكل رمزيته، يمكن أن يصبح شعارًا لمشروع وطني يحمل رؤية جريئة: بناء «وادي رم للابتكار». مدينة تكنولوجية تحتضن الشركات الناشئة، مراكز الأبحاث، برامج الاحتضان، ومخيمات تدريبية تعيد وصل الإنسان بالأرض والتكنولوجيا معًا. لماذا لا تُعقد هناك أول قمة عربية للذكاء الاصطناعي في وادي رم؟ لماذا لا يُكتب هناك أول كود كمومي عربي يربط بين عبقرية الصحراء وسرعة الضوء؟
جمال الفكرة ليس في استنساخ وادي السيليكون، بل في ابتكار نموذج أردني فريد. نموذج يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين حكمة البادية وذكاء الآلة، بين إرث الأنباط وروح الثورة الصناعية الرابعة. وبدلاً من النظر إلى الصحراء كعائق، فلنرها كفرصة: بيئة ملهمة، مفتوحة، تعكس الفضاء الرحب الذي تحتاجه العقول لتبدع.
لكن الطريق إلى هذه النهضة لا يُعبد بالشعارات فقط، بل بالقرارات الجريئة: تحديث مناهج التعليم لتشمل التفكير الخوارزمي منذ الصفوف الأولى، تمويل الأبحاث وليس فقط دعم المباني، تمكين المرأة في التكنولوجيا وليس فقط تمكينها في الخطاب، وخلق منظومة قانونية ومالية تُغري المستثمرين بأن يروا في الأردن مختبرًا للغد، لا مجرد سوق صغير.
إن زيارة سريعة إلى قصص النجاح الأردنية تُخبرنا أن الموهبة هنا لا تقل عن مثيلاتها في الغرب. فهناك مهندسون أردنيون في كبرى شركات التكنولوجيا العالمية، وشباب أسّسوا شركات في مجال الواقع المعزز، وتحليلات البيانات، والروبوتات، بل إن بعضهم حصل على جوائز مرموقة عالمياً. فلماذا لا نخلق بيئة تمنع تسرب هذه الطاقات؟ لماذا لا نُقنعهم أن وادي رم أجدر بأن يحتضن أفكارهم من وادي السيليكون؟
قد يقول قائل: نحن بلد صغير، بموارد محدودة. صحيح. ولكن من قال إن التغيير يحتاج كثرة؟ التاريخ يثبت أن الأفكار العظيمة بدأت غالبًا في أماكن صغيرة، على يد قلة آمنت أن المستقبل لا يُنتظر، بل يُصنع. وعندما قالوا إن الصحراء لا تُنبت التكنولوجيا، تذكّروا أن السيليكون – المادة التي قامت عليها الثورة الرقمية – مأخوذ أصلاً من الرمل!
فلنحلم إذًا، لا بورشات عمل صغيرة فقط، بل بمدن كاملة تُبنى حول الابتكار. فلنحوّل جامعاتنا إلى حاضنات حقيقية لا مجرد قاعات امتحان. ولنُسخّر إرادة الدولة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، لبناء مشروع وطني لا يُقاس بحجمه، بل بعمق تأثيره.
من وادي السيليكون إلى وادي رم، ليس الحلم بعيدًا، إن كانت لدينا الجرأة أن نؤمن، والإرادة أن نبدأ. فالابتكار لا يحتاج فقط إلى مختبرات، بل إلى خيال، وإلى ثقافة تضع العقول في الصدارة.