التصنيع قاطرة.. النهوض الاقتصادي الاجتماعي*د. ابراهيم بدران
الغد
قبل عدة أيام زار جلالة الملك عبدالله الثاني غرفة صناعة عمان والأردن واجتمع بعدد من الصناعيين، وجرت مناقشات حول المشكلات التي تواجهها الصناعة وكيفية تجاوزها.
كما كرم جلالته عددا من الصناعيين الذين حققوا نجاحات متميزة في الإنتاج وفي التصدير.
وحقيقة الأمر أن الزيارة تهدف إلى إلقاء الضوء على الاهتمام بالصناعة، أو بصورة أدق دعوة للتحرك بمسيرة وطنية مبرمجة نحو تصنيع الاقتصاد كطريق للنهوض الوطني. وخلال السنوات الماضية كان معدل النمو الاقتصادي لدينا يتراوح حول 2.5 %، وهي نسبة متواضعة.
صحيح أن حالة عدم الاستقرار في المنطقة منذ سنوات، والعدوانية الإسرائيلية الاحتلالية في فلسطين، بل وفي كل اتجاه، من شأنها أن تضفي صعوبات اقتصادية واجتماعية على المؤسسات في أعمالها، إلا أن الأردن بما لديه من رأسمال بشري متميز وسياسة حكيمة متزنة قادر على أن يحقق نتائج أفضل على كل صعيد.
ومن جانب آخر التزمت الحكومة في خطاب الموازنة بهدفها لرفع معدل النمو الاقتصادي ليصل 4 % عام 2030.
وهذا الرقم إذا تحقق يمثل إنجازا وطنيا جيدا ويكون بداية طيبة ليخرج الاقتصاد الوطني من حلقة النمو المتواضع التي استمرت لسنوات.
والسؤال الذي يتطلب الإجابة العملية هو: «ما هي الوسائل والآليات التي من شأنها أن ترفع من معدلات النمو بشكل يشعر به المواطن في حياته اليومية؟ سواء من حيث الدخل أو من حيث الخدمات؟» وما هو الطريق أو النهج الاقتصادي الذي ستعمل الحكومة على انتهاجه لكي تعطي للأردن دفعة من الطاقة تضعه على طريق أسرع للنهوض؟ آخذين بعين الاعتبار معدل البطالة المرتفع لدينا وهو 21.3 %، وللإناث 32.8%، ولمن هم فوق الثانوي في التعليم 60.5 %، مقارنة مع المعدل العالمي للبطالة اليوم وهو 5 %.
هذا في نفس الوقت الذي تتزايد فيه أعداد الخريجين من المعاهد والجامعات والباحثين عن العمل لدينا سنة بعد سنة، لدرجة أن وزارة العمل تعمل على عقد اتفاقيات تدريب مهني مع دول أجنبية بهدف تصدير العمالة الأردنية المدربة إلى تلك الدول، وهو نوع من الهروب إلى الأمام.
وهنا لا بد من التأكيد على عدد من النقاط وعلى النحو التالي:
أولا: إن اهتمام الملك بالصناعة، والتي تساهم مباشرة بـ 21.7 % من الناتج المحلي الإجمالي، ينبغي أن يُقرأ كرسالة إلى جميع المؤسسات بأن ازدهار الصناعة ونجاحاتها هي مسؤولية مشتركة ما بين القطاع الخاص الصناعي والمالي وما بين الحكومة بمؤسساتها المختلفة، وأن أي تعثر أو تراجع في الصناعة ينبغي ألا تتجاهله الحكومة وتعتبره مجرد مسألة خاصة، لأن القطاع الصناعي، وبدرجة أعلى من القطاعات الأخرى، يعتمد على أداء المؤسسات الأخرى ابتداء من الموانئ والجمارك مرورا بالنقل والطاقة والأيدي العاملة وانتهاء بالتعليم وغير ذلك الكثير.
ثانيا: إن الصناعة هي المدخل لتصنيع الاقتصاد الوطني بقطاعاته المختلفة من زراعة إلى سياحة إلى نقل إلى خدمات، وهو الطريق الأساس لزيادة إنتاج وإنتاجية تلك القطاعات.
وهنا تقع المسؤولية على إدارة الدولة كيف تحقق حالة التصنيع في القطاعات المختلفة وفي الوقت المتزامن الصحيح.
ثالثا: إن تصنيع الاقتصاد هو البوابة الرئيسة والمدخل الصحيح للنمو الاقتصادي المقبول الذي يتعدى معدلات النمو السكاني.
وليس من الممكن الوصول إلى معدلات مرتفعة إلا من خلال توسيع القاعدة التصنيعية بمشاريع ريادية جديدة وتصنيع القطاعات بالإفادة من العلم والتكنولوجيا والبناء على القطاع الصناعي.
وهذا يضع على الحكومة مسؤولية العمل لهذا التحول.
رابعا: إن تخفيض حجم البطالة لا يتحقق بتصدير رأس المال البشري الأردني إلى الخارج، ولا بإعادة احتساب الأرقام وإدخال العمالة الوافدة، والتي تشكل لدينا 44.5 % من القوى العاملة، وإنما يتحقق فعليا من خلال المشاريع الإنتاجية الجديدة التي تتم إقامتها في مختلف محافظات المملكة في إطار التوسع للقطاعات المختلفة والتصنيع.
خامسا: إن مفهوم الاستثمارات الرأسمالية في موازنة الدولة ينبغي أن يتطور من مجرد استثمار جديد في مؤسسات خدمية فقط، على أهميتها، إلى مفهوم الاستثمار الرأسمالي الخدمي الإنتاجي.
بمعنى أن إنشاء مستشفى جديد يمثل استثمارا رأسماليا مهما وضروريا، ولكن يجب أن يرافق هذا المستشفى مشروعان إنتاجيان أو ثلاثة، ربما لمواد طبية أو صيدلانية أو غذائية أو أي إنتاجات أخرى.
وكذلك الاستثمار في بناء المدارس وهو أمر في غاية الأهمية ينبغي أن يرافقه مشاريع إنتاجية متعلقة بالتعليم أو الصناعات التعليمية أو قريبة من ذلك.
سادسا: ما تزال الإدارة الحكومية شديدة التردد في التشارك الفعلي مع القطاع الخاص.
فهناك المشاريع الكثيرة التي تنتظر فيها الدولة التمويل من الخارج، ولا تتحرك الإدارة عمليا لإنشاء شركات مساهمة عامة يساهم فيها المواطنون ويحققون «الإقفال المالي» في فترة زمنية قصيرة.
والمثال الأكبر على ذلك «الناقل الوطني» الذي تأخر تنفيذه لسنوات بسبب غياب التمويل وغياب الشركات المساهمة العامة التي يفترض إنشاؤها للمشروع بكامله أو لأجزاء منه.
سابعا: إن قطاع النقل ما يزال بعيدا عن التحديث والتصنيع، وينعكس ذلك على كلفة الإنتاج في الصناعة والزراعة والسياحة والطاقة وغيرها.
فهل يمكن أن يستمر الأردن بدون خط سكة حديد يربط شماله بجنوبه، ويربط العقبة بالرمثا حتى يتوجه المستثمر إلى إقامة مشروعه عند أي قرية أو بلدة تقع على الخط الحديدي، وبالتالي تتولد فرص العمل في المحافظات والأرياف دون اضطرار أبنائها وبناتها إلى هجرتها.
ثامنا: إن النهوض الحقيقي للصناعة المتقدمة وللتصنيع الحديث لا يتحقق إلا بالارتباط المتين والتجسير الدائم بين الصناعة والأكاديميا، بين المنتج الصناعي أو الزراعي وبين العالم في الجامعة والباحث في مركز الأبحاث.
وهذا يستدعي من الجامعات تعميم تدريس «الريادية وإدارة المشاريع» في جميع التخصصات، وتغيير تعليماتها التقليدية من حيث النظر إلى البحوث التطبيقية والتجريبية وحل المشكلات الإنتاجية لتصبح بنفس الدرجة من الأهمية والمكانة للبحوث النظرية التي قليلا ما يستفيد منها أي قطاع.
وأخيرا، فإن جهود الملك في مساندة الصناعة، والمحاولات المتواصلة للتجسير بين الصناعات والأكاديميا، والاهتمام برأس المال البشري الأردني ليكون هو من يبني ويدير المشاريع ويرفع معدلات النمو، كل ذلك يتطلب من الحكومة ومؤسساتها تفهم مفردات هذا الدعم والعمل على تحويل الأردن إلى اقتصاد صناعي يقوم على العلم والتكنولوجيا والإبداع والمشاركة المجتمعية الوطنية في كافة التفاصيل.
فذلك يمثل البوابة الرئيسية للتغيير الاجتماعي واستعادة الطبقة الوسطى دورها نحو مجتمع المعرفة والمستقبل.