الدستور
لا أعتقد أن هناك من لا «يتمنّى» زيادة الرواتب، ليس فقط من منطلقاتٍ تحسينٍ معيشيّةٍ، بل ومن منطلقاتٍ تحفيز زيادة الإنتاجية، ولكن وما «نيل المطالب بالتمنّي».. فزيادة رواتب موظفي الحكومة من الصعب أن تتأتى في موازنةٍ أكثر من 60 % من نفقاتها رواتب ومخصصات التقاعد للمدنيين والعسكريين، وفي المقابل نحو 70 % من إيراداتها ضريبية.. وما بين هذا وذاك هناك نحو 2.3 مليار دينار خدمة دين، ولا يتبقى في الموازنة للمراهنة عليه برفع معدلات النمو سوى مبلغ 1.6 مليار دينار للمشاريع الرأسمالية، المخصص للجديد منها نحو 144 مليون دينار.
لذلك حين الحديث والمطالبة بزيادة الرواتب لا بد من البحث «المنطقي» في مدى (إمكانية) - وليس (أحقيّة) - ذلك، فهذا أمر مفروغٌ منه، ولكن الصعوبة في إمكانية تحقيق ذلك انطلاقًا من قاعدة «إذا أردت أن تُطاع فاطلب المستطاع».. ومبررات الصعوبة عديدة، في مقدمتها:
1 - موازنة 2026 تأتي بعد سنتين صعبتين من بدء حرب الإبادة على غزة، عانى ولا يزال الاقتصاد الأردني يعاني من التبعات الاقتصادية للحرب، رغم خروجه بأقل الخسائر. ومن باب المكاشفة علينا أن ندرك تمامًا بأن تداعيات الحرب تسببت بتراجعٍ في الإيرادات «المتحققة» عن «المقدّرة» في العام 2025، كما أدّى ذلك في المقابل إلى تراجع فرضيات مخصصات المشاريع الرأسمالية المتحققة عن المقدّرة في العام 2025.
2 - صحيح أن الاقتصاد الأردني متماسك، واستطاع مواجهة تداعيات الحرب وكل ما نتج عنها من انعكاساتٍ سلبيةٍ على مختلف القطاعات الاقتصادية، خصوصًا تقطّع سلاسل التوريد بسبب تداعيات «باب المندب»، إلا أنّ ما تحقق هو استقرارٌ وصمودٌ في وجه التحديات، وليس قفزةً في معدلات النمو التي لا زالت تحوم حول 2 % لكنها تقترب بثباتٍ نحو الـ3 %، ويدرك الجميع أنها نسبة لا توفّر ما نصبو إليه من خلق فرص عمل.
3 - بحسب الأرقام، فإن مجموع رواتب الجهاز المدني والعسكري والأمني ارتفع من 4108 ملايين دينار عام 2022 إلى 5014 مليون دينار عام 2026، بزيادةٍ إجماليةٍ قدرها 906 ملايين دينار خلال الفترة، فيما تراوحت الزيادات السنوية بين 159 و237 مليون دينار.
4 - وبحسب الأرقام أيضًا، فقد ارتفعت مخصصات التقاعد المدني والعسكري من 1605 ملايين دينار عام 2022 إلى 1820 مليون دينار عام 2026، بزيادةٍ قدرها 215 مليون دينار على مدى 5 سنوات، وبمعدل ارتفاعٍ سنويٍّ يتراوح بين 22 و65 مليون دينار.
ورغم كل ما تقدّم ذكره، تبقى زيادة الرواتب أمرًا صعبًا - بل غير ممكنٍ في موازنة 2026 -، ولكن إذا أردنا تحقيق الأمر في قادم الأعوام، علينا أن ندرك بأن المطلب «غير مستحيلٍ»، لكنه يستوجب اتخاذ خطواتٍ تتلخص في النقاط التالية:
1 - المضيّ قدمًا بتنفيذ «رؤية التحديث الاقتصادي» التي تستهدف رفع معدلات النمو وصولًا إلى 5.6 % في العام 2033 وخلق مليون فرصة عمل.. وكل ذلك يستوجب جلب استثماراتٍ بقيمة 41 مليار دينار حتى العام 2033.
2 - تنفيذ «خارطة طريق تحديث القطاع العام»، واعتماد مبدأ مكافأةٍ وتحفيز العاملين المنتجين.
3 - الربط بين الإنتاجية والراتب (بالإضافة إلى الزيادة السنوية الاعتيادية)، فلا بد من التسريع بتطبيق رؤية التحديث الإداري، التي ترتكز على تحفيز الإبداع والإنتاجية والتدريب والتطوير للمواءمة بين الراتب وطبيعة العمل وزيادة الإنتاجية.. بمعنى «تحفيز وزيادة راتب المنتج ومحاسبة المقصّر».
ووفقًا لمبدأ «ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك جلُّه»، فلا شكّ بأن الحكومة الحالية تدرك بأن واقع الحال لا يمكّنها من زيادة الرواتب التي تعد فاتورتها في 2026 الأعلى منذ 5 سنوات، ولذلك فقد تصرفت هذه الحكومة بما تملكه من أدواتٍ تخفّف عن كاهل المواطن، فعمدت إلى اتخاذ نحو (210) قراراتٍ تستهدف التخفيف عن المواطنين وتحفيز الأنشطة الاقتصادية في كثيرٍ من القطاعات، منها: (إعفاءات غرامات تراخيص السيارات، وإعادة هيكلة قطاع المركبات، وحوافز الشقق والقطاع العقاري، وأخيرًا وليس آخرًا إعفاءاتٌ وخصومات الأراضي والمسقفات.. إلخ).
في موازنة 2026 وسّعت الحكومة من مخططات الحماية الاجتماعية وخصّصت:
- 280 مليون دينار لصندوق المعونة الوطنية.
- 80 مليونًا لدعم الجامعات الأردنية الحكومية.
- 251 مليونًا لدعم السلع (الخبز + الغاز المنزلي).
- 124 مليون دينار لتأمين معالجة مرضى السرطان.
*باختصار:
إذا أردنا - والكلّ يتمنّى - زيادة الرواتب، فيجب العمل على جذب استثماراتٍ، ومعالجة المديونية، ورفع الصادرات، وزيادة الإنتاج إلى مستوى يرفع معدلات النمو بما يوفّر فرص عملٍ دائمةٍ، ويجعل من زيادةٍ حقيقيةٍ للرواتب أمرًا ممكنًا.