انقطاعات الإنترنت العالمية.. وكيف نواجه العزل الرقمي؟
الغد-ابراهيم المبيضين
لم تعد حوادث انقطاع خدمات الإنترنت أو توقفها فكرة قابلة للتخيل بالنسبة للسواد الأعظم من الناس بعد أن أصبحت "شريان الحياة" الذي لا يمكن الاستغناء عنه.
ويرى خبراء أن على الدولة بناء إستراتيجيات على مستوى الحكومات والأفراد للحفاظ على استدامة خدمات الإنترنت والتقليل من تأثيرات انقطاعها السلبية التي يمكن أن تكبد خسائر بمليارات الدولارات وفوضى واسعة النطاق.
ويبين خبراء محليون أن خدمات الإنترنت وما يرتبط بها من خدمات رقمية لم تعد "ترفا" لأن أي انقطاع واسع فيها اليوم ينعكس فوراً على حياة ملايين الأشخاص حول العالم، ويعطل أنظمة مدفوعات، وخدمات اتصالات، ومنصات عمل، وتطبيقات تعتمد عليها المؤسسات بشكل يومي، ما يجعل من هذا الاعتماد المتزايد يجعل من كل خلل تقني حدثاً ذا تأثير اجتماعي واقتصادي مباشر.
وأكدوا أن العام 2025 الذي شهد حوادث عالمية لانقطاع الإنترنت يعطي درسا في ضرورة اتخاذ إجراءات لمواجهة " هشاشة الشبكة" وضمان الاستدامة، وجهدا مشتركا من الحكومات والمؤسسات والأفراد، وذلك من خلال تنويع مصادر الحصول على الخدمة، وتوفير مسارات بديلة للارتباط بالشبكة العنكبوتية، والاعتماد على أكثر من مزود للخدمات السحابية التي باتت تحفظ جميع بيانات الاستخدام مع تفضيل الاعتماد على مزودين محليين لهذه الخدمة حتى يكون التحكم أكثر في إدارتها.
وأكدوا أهمية توفير مصادر طاقة احتياطية لمراكز البيانات، وتفعيل النسخ الاحتياطي المستمر للبيانات، وتدريب الموظفين على آليات العمل دون اتصال بالإنترنت، فضلا عن دور للأفراد بتوفير (الاحتياط الشخصي) إذ يجب على الأفراد تنويع مصادر اتصالهم، كاستخدام إنترنت منزلي مع توفير بيانات الهاتف المحمول كاحتياطي موثوق، والاحتفاظ دائمًا بنسخة احتياطية من الملفات المهمة بشكل محلي.
وخلال العام الحالي، شهدت الخدمات الرقمية حول العالم انقطاعات متكررة ناتجة عن أعطال تقنية لدى مزودي خدمات البنية التحتية للويب، ما أدى إلى توقف منصات يستخدمها ملايين الأشخاص في عدة حوادث، من أبرزها ما وقع في أكتوبر الماضي، عندما تسبّب انقطاع دام 15 ساعة في مراكز بيانات شركة أمازون في تعطيل العديد من المواقع والخدمات المالية والحكومية حول العالم، أعقبه خلل في شركة كلاودفلير أدى إلى تعطّل خدمات بصورة واسعة النطاق، منها تشات جي بي تي ومنصة اكس، وما لا يُحصى من مواقع الإنترنت المعتمدة على خدمات كلاود فلير.
تأثر الملايين حول العالم
وقال خبير الذكاء الاصطناعي والميتافيرس رامي الدماطي "حوادث انقطاع الإنترنت التي شهدناها العام الحالي أظهرت " مدى الارتباط العميق بين الإنسان والحياة الرقمية"، لافتا إلى أن الإنترنت لم يعد مجرد وسيلة ترفيه أو تواصل، بل أصبح البنية الأساسية التي تقوم عليها الأعمال، والخدمات الحكومية، والدفع الإلكتروني، والتعليم، والصحة، وحتى الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي.
وزاد الدماطي "أي انقطاع واسع اليوم ينعكس فورا على حياة ملايين الأشخاص حول العالم، ويعطل أنظمة مدفوعات، وخدمات اتصالات، ومنصات عمل، وتطبيقات تعتمد عليها المؤسسات بشكل يومي، وأن هذا الاعتماد المتزايد يجعل من كل خلل تقني حدثاً ذا تأثير اجتماعي واقتصادي مباشر".
منظومة رقمية مترابطة
وأوضح الدماطي ان حوادث انقطاع خدمت الإنترنت تؤشر إلى أننا نعيش في "منظومة رقمية مترابطة"، لدرجة أن مشكلة في ملف تهيئة واحد لدى مزود عالمي قد تؤدي إلى توقف منصات يستخدمها البشر في أعمالهم ودراستهم وتواصلهم.
ولفت إلى أن هذه الحوادث تتطلب اعترافاً بأن الإنترنت أصبح "منفعة عامة" تحتاج إلى إدارة واعية، ومرونة عالية، واستعدادات مسبقة من الحكومات والمؤسسات لحماية المجتمع من آثار أي انقطاع مفاجئ.
أسباب الانقطاعات
وعن أبرز أسباب الانقطاعات أوضح الدماطي أنها تقع نتيجة لأخطاء في التهيئة مثلما حدث في حادثة " كاودفير" الأخيرة ، أو نتيجة لأعطال في البرمجيات أو تحديثات غير مختبرة.
وأكد أن من أسباب الانقطاعات المهمة الهجمات السيبراني التي يكون هدفها قطع الاتصال، والأعطال المادية كقطع كابلات الألياف أو فشل مراكز البيانات.
وأشار إلى أن من الأسباب أيضا موضوع ازدحام الشبكة الذي يتجاوز قدرة المعالجة.
وقال الدماطي "فهم هذه الأسباب يساعد في بناء خطط مواجهة فعالة".
كيف نواجه الانقطاع ؟
وعن آليات المواجهة للانقطاع، أكد الدماطي أن أول خطوة هي تنويع الاعتماد وعدم الاعتماد على مزود واحد للبنية الرقمية والسحابة.
بالإضافة إلى ذلك، لفت الدماطي إلى أنه يجب بناء بنية تحتية قادرة على العمل في حالات الأزمات، عبر إنشاء مسارات اتصال بديلة، ومراكز بيانات محلية، وأنظمة احتياطية تعمل على مزود آخر عند تعطل الأول.
وأضاف الدماطي "كما ينبغي أن تمتلك الحكومات خطط استمرارية الأعمال، وخطط التعافي من الكوارث، واختبارها بشكل دوري، لضمان ألا يؤدي تعطل مزود عالمي إلى توقف الخدمات الحيوية للمواطنين".
المطلوب إستراتيجية واضحة
وعلى صعيد متصل شدد الدماطي أهمية تنفيذ إستراتيجية واضحة للمواجهة في حالة الانقطاع للخدمات الرقمية والإنترنت تشمل، تنويع البنية التحتية الرقمية بين عدة مزودين، ومراقبة الأداء وحركة المرور بشكل لحظي للإنذار المبكر، فضلا عن أهمية اعتماد معايير مرونة البنية الرقمية.
وأكد الدماطي أهمية تدريب فرق تقنية على سيناريوهات الانقطاعات وإجراءات التحول السريع بين الخدمات، والعمل على تطوير إطار وطني لاستمرارية الخدمات الرقمية الحساسة، خصوصاً الصحة والأمن والخدمات الحكومية.
وقال: "إن هذا النهج يضمن أن أي خلل عالمي، ولن يشل خدمات الدولة أو المؤسسات".
كيف نتأثر عند انقطاع الإنترنت ؟
وقال الخبير في مجال التقنية والاتصالات وصفي الصفدي إن "ارتباطنا بالشبكة العالمية تحول من رفاهية إلى بنية تحتية حيوية، مما يجعل أي انقطاع فيها حدثاً ذا أثر واسع النطاق على الاقتصاد والحياة اليومية".
ويرى الصفدي أننا نتأثر بشدة عند انقطاع خدمات الإنترنت " لكونه أصبح البنية التحتية الأساسية للحياة الحديثة".
وأوضح أن الإنترنت أصبح " شريان الاقتصاد والعمل" مع اعتماد جميع القطاعات الحيوية، من البنوك والتجارة الإلكترونية على العمل عن بعد، وعلى الاتصال المستمر وأن أي انقطاع يؤدي إلى خسائر مالية فادحة وتقليل الإنتاجية، حيث تُقدر الخسائر الاقتصادية العالمية الناتجة عن انقطاع الشبكة لساعة واحدة بمليارات الدولارات.
وقال الصفدي "أي انقطاع يتسبب في" عزل اجتماعي ومعرفي"، مبينا أن التواصل الشخصي والمهني يعتمد اليوم على تطبيقات الإنترنت، كما أنه المصدر الرئيسي للمعلومات والأخبار، ما يجعل الانقطاع بمثابة عزل وعرقلة للحصول على المعرفة.
وأشار إلى أن انقطاع الإنترنت يتسبب أيضا في تعطيل الخدمات الأساسية فقد أصبحت الرعاية الصحية الطارئة وأنظمة النقل الذكية والتعليم عن بعد تعتمد على الشبكة، ما يحول انقطاع الإنترنت إلى خطر يهدد السلامة العامة ووظائف الدولة.
الاستدامة تتطلب جهودا مشتركة
وعن الإجراءات المطلوبة للمواجهة وضمان الاستدامة، قال الصفدي إنها "تتطلب جهداً مشتركاً من الحكومات والمؤسسات والأفراد".
وأكد دور الحكومات و(المرونة الوطنية)، مبينا انه يجب على الدول الاستثمار في تعدد مسارات الكابلات الدولية والوطنية، وضمان عدم تمركز البنية التحتية في مسار واحد، بالإضافة إلى تنظيم الشركات العملاقة لكسر الاحتكار لتكنولوجي.
وأضاف "هناك دور على المؤسسات (الاستعداد الداخلي) بتوفير مصادر طاقة احتياطية لمراكز البيانات، وتفعيل النسخ الاحتياطي المستمر للبيانات، وتدريب الموظفين على آليات العمل دون اتصال بالإنترنت" لافتا إلى دور الأفراد بتوفير (الاحتياط الشخصي) إذ يجب على الأفراد تنويع مصادر اتصالهم، كاستخدام إنترنت منزلي مع توفير بيانات الهاتف المحمول كاحتياطي موثوق، والاحتفاظ دائمًا بنسخة احتياطية من الملفات المهمة بشكل محلي.
مقترحات لمواجهة الانقطاعات
وقدم الصفدي مقترحات لضمان المرونة الإلكترونية واستمرارية الخدمات وقال "يجب تطبيق منهجيات صارمة ومنها خطط استمرارية الأعمال والتعافي من الكوارث، إذ يجب إعداد خطط مفصلة تحدد الإجراءات الفورية لاستعادة الخدمات وتوفير البنية التحتية البديلة، وتحديد الفترة الزمنية القصوى المسموح بها للانقطاع".
وأكد أهمية تنويع البنية التحتية إذ يتعين على المؤسسات الحيوية استخدام أكثر من مزود للخدمات وخصوصا الخدمات السحابية والاعتماد على بيئات متعددة السحب، لافتا إلى ضرورة تجنب الاعتماد الكلي على مورد واحد وضمان وجود مسارات بديلة.
وأشار إلى أهمية الاختبار والمحاكاة الدورية عبر إجراء اختبارات ومحاكاة دورية لسيناريوهات الانقطاع الكبرى للتأكد من جاهزية الفرق وقدرة الخطط على العمل بكفاءة تحت الضغط.
مخاطر هيمنة الشركات العملاقة
وعلى صعيد متصل، أكد الصفدي أن الأحداث المرتبطة عادة بانقطاعات الإنترنت تكشف لنا دوما تركز البنية التحتية والخدمات في أيدي عدد قليل من الشركات التكنولوجية العملاقة وهو ما اعتبره " خطرا جسيما".
وضرب مثلا كيف ان الاعتماد الهائل على مورد سحابي واحد ولدى حصول عطل تقني لدى هذا المورد يتحول فورا إلى كارثة عالمي وساعة النطاق كما حدث في انقطاعات سابقة.
وبين أن هناك خطر من الاحتكار وخنق المنافسة ، فهذه الشركات تسيطر على حصة سوقية ضخمة، مما يمنحها قوة تحديد قواعد اللعبة الرقمية، ويؤدي إلى خنق المنافسة والحد من نمو الشركات الناشئة والابتكار.
كما أشار إلى جزئية السيطرة على البيانات والسيادة الرقمية عندما تتراكم في يدها كميات ضخمة من البيانات الشخصية، ما يثير مخاوف جدية بشأن الخصوصية، ويجعل الدول عرضة لسيطرة كيانات غير حكومية على مسارات معلوماتها الحيوية.
الإنترنت "عصب" الاقتصاد العالمي
ومن جانبه، قال الخبير في مجال التقنية والبيانات الدكتور حمزة العكاليك إن "الإنترنت لم تعد مجرد خدمة ترفيهية أو مالية، بل تحول إلى جهاز عصبي يحرك الاقتصاد العالمي، ويدير المستشفيات، وينظم حركة الطيران فلم يعد من الممكن تخيل لحظة سيناريو الصمت الرقمي المطبق؛ إذ تتوقف الخدمات المصرفية، وتتعطل سلاسل التوريد، وتدخل الدول في حالة شلل تام".
وبين أن أحداث الأعطال في الإنترنت التي مرت العام الحالي لم تكن مجرد خلل تقني، بل كان تذكيراً قاسياً بمدى هشاشة اعتمادنا المفرط على أنظمة مترابطة بمركزية مخيفة.
وأضاف العكاليك "نحن مفرطون في الاتصال لدرجة أن أي انقطاع ليس مجرد إزعاج، بل هو تهديد مباشر للأمن القومي والاقتصادي، فهل نحن مستعدون للسيناريو الأسوأ".
الأردن وخدمات الإنترنت الفضائي
وقال" الأردن، بموقعه الجيوسياسي الفريد كبوابة رقمية ونقطة وصل رئيسية للإنترنت بين الشرق والغرب، يقف اليوم أمام تحدٍ وفرصة تاريخية" مبينا أن الأسباب الرئيسية لانقطاع الإنترنت عالمياً تتراوح بين الهجمات السيبرانية الموجهة، والأخطاء البرمجية الكارثية، والأخطر من ذلك الأضرار المادية للكوابل البحرية التي تمر عبر ممرات مائية مضطربة مثل البحر الأحمر.
وأشار إلى حكمة القرار الأردني الأخير بالسماح لخدمات ستارلينك الفضائية والتي لا تمثل مجرد إنترنت سريع، بل هي تطبيق عملي لمبدأ التنويع عبر الفضاء ما يوجد مساراً بديلاً لا يتأثر بما يحدث في قاع المحيطات، ويضمن استمرارية الأعمال في أحلك الظروف.
هل تكفي خدمات الإنترنت الفضائي؟
وبين العكاليك "الإجابة القاطعة من منظور حوكمة البنية التحتية هي: لا، فالاعتماد على مسار واحد أو مزود تكنولوجيا واحد هو انتحار إستراتيجي وهنا تأتي ضرورة النظر بجدية واحترافية نحو تنويع الشراكات في الكوابل البحرية والبرية، بما في ذلك الانفتاح على خيارات بديلة من المزودين العالميين.
وأضاف العكاليك "هذا التنويع ليس خياراً سياسياً بقدر ما هو ضرورة تقنية لضمان الحياد التكنولوجي وعدم وضع "البيض في سلة واحدة" فإذا تعطلت المسارات الغربية، يجب أن تكون المسارات الشرقية جاهزة، والعكس صحيح والحكومة والمؤسسات مطالبة اليوم بتبني إستراتيجية تعدد المسارات لتقليل نقاط الفشل الأحادية.
توطين البيانات
وأكد العكاليك أنه من زاوية حوكمة البيانات، الحل لا يكمن فقط في الكوابل، بل في توطين البيانات، إذ يجب على المؤسسات والحكومة الانتقال من استهلاك الخدمة السحابية العالمية فقط إلى بناء مراكز بيانات وطنية قوية قادرة على تشغيل الخدمات الحيوية محلياً.
وقال "في حال انقطاع الاتصال الدولي، علينا فرض سياسات استمرارية الأعمال دون اتصال".
ولخص العكاليك قائلا " ختاماً، الأمن الرقمي للأردن وللمنطقة لا يُبنى بالنوايا الحسنة، بل بالهندسة الإستراتيجية المعقدة التي تزاوج بين الفضاء (ستارلينك)، والأرض (تنويع الكوابل والمزودين)، والعقل (حوكمة البيانات الصارمة)".