هل نقف على أعتاب حرب عالمية ثالثة بدوافع اقتصادية ومالية؟*د. شهاب المكاحله
الراي
هذه ملخص محاضرة تقدمت بها في إحدى الجامعات البريطانية العريقة مؤخراً والتي لخصت فيها كيف يقف العالم عل فوهة بركان. ففي اللحظة التي كان العالم يتوهّم فيها أن العولمة المالية ستقود الشعوب إلى رخاء دائم، اكتشفنا أن النظام الذي بنته القوى الكبرى منذ نهاية الحرب الباردة لم يكن سوى آلية هرمية حديثة للاستحواذ: عملات مهيمنة، ديون بلا سقف، أسواق تابعة، واقتصادات نامية محاصرة في دائرة لا خروج منها إلا بعقاب أو فوضى. اليوم لم يعد السؤال: هل ينهار النظام المالي الدولي؟ بل: كيف سيتفكّك؟ ومع من سيتفكّك؟ وعلى حساب من؟
فالديون العالمية التي تجاوزت 350تريليون دولار ليست مجرد رقم مفزع، بل هي إعلان رسمي بانتهاء صلاحية نموذج "المال مقابل السيطرة"، و"النمو مقابل التضحية بالسيادة". فكل نقطة فائدة نصبها الفيدرالي الأمريكي دفاعاً عن الدولار لم تكن علاجا للتضخم، بل كانت رصاصة في قلب الاقتصادات الناشئة، وجرعة دعم لشبكات المال والطاقة في الغرب.
ومع هذه الفوضى المالية، عاد العالم ليتصرّف كما لو أنه على أبواب القرن العشرين من جديد: خطوط توتر، سباق تسلّح، صراع على التكنولوجيا والممرات البحرية، وحرب عملات وأجهزة مخابرات ودعاية. يظن الغرب أنه لا يزال في ذروة قوته، وتعتقد الصين أنها تسابق الزمن لتجاوز لحظة الهيمنة الغربية، وتراهن روسيا على تفكيك مجال النفوذ الأمريكي عبر الجغرافيا لا الأسواق فقط. أما أوروبا، فقد تحوّلت من شريك قرار إلى تابع يشتري الغاز بأسعار مضاعفة، ويدفع ثمن المغامرة الإستراتيجية في أوكرانيا والارتباط العضوي اقتصاديا وأمنيا مع الولايات المتحدة.
في هذه اللحظة، بدأت الحقيقة تتكشف: المال أصبح معركة جيوسياسية، والدَّيْن أصبح سببا للحرب، والفائدة أصبحت سلاحا، والدولار لم يعد أداة مبادلة بل أداة إذعان. فهل نحن إذن على أعتاب حرب عالمية جديدة؟
الجواب الواقعي: نحن في طورها الأول بالفعل، لكن بأدوات مختلفة.
فالحروب اليوم لا تبدأ بالقصف، بل بقرارات الفائدة، والعقوبات، وحصار الممرات، وتمزيق سلاسل التوريد، وتفجير الأسواق الناشئة. إنها حرب عالمية بالتقسيط، متعددة الجبهات بين الشرق والغرب والشمال والجنوب — حرب لتحديد من يكتب العقد العالمي القادم.
ماذا يعني ذلك للشرق الأوسط والعالم العربي؟
ليس من المبالغة القول إن منطقتنا تقف في قلب هذه العاصفة. هنا تمر الطاقة، وهنا الممرات البحرية، وهنا الصراع على النفوذ العسكري والاستخباراتي، وهنا نقطة التماس بين مشروع أمريكي يترنّح لكنه لا يريد أن يسقط، ومشروع صيني–روسي يصعد لكنه لا يريد الاصطدام المباشر. الصين تبني بديلا ماليا عبر الـ"بريكس" و"مبادرة الحزام والطريق"، وروسيا تفرض وقائع بالقوة الصلبة من البحر الأسود إلى المتوسط. الغرب يحاول تثبيت إسرائيل كقاعدة أمنية مركزية، ويدعم مشاريع التقسيم الناعم والسيطرة على العقد الاستراتيجية كالبحر الأحمر وشرق المتوسط.
الدول العربية اليوم بين خيارين لا ثالث لهما:إمّا أن تظل في موقع المتلقّي، تدفع ثمن تحولات النظام المالي العالمي، وتتعرض لازدياد الضغوط السياسية والاقتصادية، وتتحمل كلفة استقطابات لن تصنع أمنا ولا نهضة وإمّا أن تفهم أن التاريخ لا يرحم المتفرجين، فتؤسس موقعا مستقلا في النظام الجديد — تنويع تحالفات، تعميق التكامل الإقليمي، توجيه الثروة لبناء قوة تكنولوجية وعسكرية، واستثمار موقعها الجغرافي بدل عرضه في المزاد.
لكن الحذر واجب: واشنطن عندما تشعر أن السيطرة تهتز، تضرب.وبكين عندما تشعر أن الزمن يضيق، مناورتها تصبح أكثر هجومية.وموسكو عندما تشعر أنها محاصرة، تذهب إلى النهاية.وهنا تظهر الحقيقة المرّة: من لا يملك أدوات القوة يُستعمل كأرض معركة.
العالم يدخل مرحلة إعادة كتابة قواعد اللعبة. إما أن يتوصل الكبار لتسوية تمنع الانهيار، أو ندخل زمنا أخطر مما شهدته البشرية منذ قرن. فالعرب أمام مفترق مصيري: إما أن يعاد تدويرنا كملحق اقتصادي وأمني للغربي المتراجع،أو نُصبح طاولة لعب بين القوى الصاعدة،أو نختار طريقا ثالثا أصعب لكنه أوضح: الاستقلال الإستراتيجي الذكي.
وفي الختام، الأسواق لا تحكم العالم، بل القوة التي تحمي الأسواق. فمن لا يبني قوته، سيبقى تحت رحمة من يمتلكها. فقد انتهى زمن الاكتفاء بالجلوس في مقاعد المتفرجين لأن العالم يعاد تشكيله، ومن يغفل لحظة، سيُعاد تشكيله هو.