بين نهري الأردن والليطاني.. مشتركات الجفاف واختناق الحياة
الغد-إيمان الفارس
البقاع - ليس نهر الليطاني وحده من يعرف طعم العطش، فمشهد النهر الحزين خلف جدران سدّ القرعون، بخطّ امتلاء متراجع ومياه شحيحة، يبدو مألوفا لدول كثيرة في المنطقة، وعلى رأسها الأردن، حيث تحوّلت الأنهار والأودية من شرايين نابضة إلى مجار متعبة تحبس أنفاسها بانتظار موسم أمطار لا يأتي أحسانا أو يطل خجولا.
الليطاني، الذي طالما غذّى الأرض وأضاء البيوت، يقف اليوم ككائنٍ أنهكه الجفاف، مياه كانت تسحب "في الأحوال العادية" لتوليد الكهرباء وتوفير مورد رزق لنحو 5 آلاف نسمة، باتت اليوم عاجزة عن تلبية الحدّ الأدنى من الاحتياجات.
مشهد يعيد للذاكرة صورة نهر الأردن، الذي انكمش مجراه حتى صار ظلا لنهر كان يوما أحد أعمدة الجغرافيا والحياة.
هذا العام لم يكن عاديا؛ إذ تقلّصت المساحات المروية على ضفاف الليطاني من 5 إلى 3 آلاف هكتار فقط، وخسرت الأرض ألفي هكتار دفعة واحدة.
أرض جفّت، ومحاصيل خذلت أصحابها، تماما كما يحدث في وادي الزرقاء أو الموجب، حيث بات المزارعون يعدّون مواسمهم على أصابع القلق، لا على وفرة المياه.
وخلال زيارة ميدانية لوفد مبادرة "السلام الأزرق في الشرق الأوسط" الممولة من الحكومة السويسرية، جاءت على هامش الاجتماع الرابع المشترك للجنتها الاستشارية والإدارية، وشاركت بها "الغد"، بدا سدّ القرعون البالغة سعته التخزينية نحو220 مليون م3، شاهدا صامتا على التراجع.
زيارة ناقشت واقع المنشآت المائية التابعة للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني ودورها في توليد الطاقة، والتحديات المتزايدة التي يفرضها تغيّر المناخ على حوض النهر. فبدل أن تتراوح كميات المياه المخزّنة بين 70 و80 مليون م3 كما في السنوات الجيدة، لا يتجاوز المخزون اليوم 39 مليون م3 فقط.
رقم يفرض قرارات قاسية، كان أقساها إغلاق معامل توليد الطاقة منذ شهر حزيران (يونيو)، للحفاظ على الحدّ الأدنى من المياه وحماية المنشآت من الانكشاف.
قرار يعكس معضلة مألوفة في الأردن، حيث تغلّب أولوية الشرب أحيانا على الزراعة والطاقة، في سباقٍ خاسر مع الجفاف.
وخلال الزيارة لسدّ وبحيرة القرعون ومعمل عبد العال الكهرومائي، بحضور خبراء من الأردن ولبنان وسورية وتركيا وسويسرا والعراق، برزت المفارقة المؤلمة. فالليطاني، الذي وفّر في ستينيات القرن الماضي نحو 50 % من احتياجات لبنان من الكهرباء، ما يزال ركيزة للطاقة النظيفة.
معامل كانت تنتج قرابة 200 ميغاواط من أصل قدرة إجمالية تقارب 300 ميغاواط، مسهمة في تأمين نحو 90 % من الطاقة النظيفة في البلاد.
لكن هذا الشريان، كما هو حال كثير من الأودية الأردنية التي فقدت قدرتها على الجريان الدائم، بات عاجزا عن تشغيل توربيناته؛ فالجفاف أطفأ جزءا من الضوء، والتلوّث أجهز على ما تبقّى من العافية.
وعلى امتداد المجرى الرئيسي لليطاني، ومعه 16 رافدا أساسيا، تتدفّق الملوّثات الصناعية والزراعية بلا رادع.
فمن معامل الألبان والأجبان إلى صناعة النبيذ ومخللات الغذاء، ارتفعت مؤشرات التلوّث إلى مستويات جعلت المياه غير صالحة حتى للري في كثير من المناطق. مشهد يوازي ما تعانيه بعض الأودية الأردنية، حيث تختلط ندرة المياه بتراجع نوعيتها، في معادلة تضرب الزراعة وصحة الإنسان معا.
هكذا، يحاصر النهر من جهتين؛ جفاف يقلّص نبضه، وتلوّث يفسد ما تبقّى من مياهه. نهر كان رمزا للعطاء، بات مرآة لأزمة مائية وإنمائية عميقة، لا تخصّ بلدا واحدا، بل تمتد على طول الجغرافيا العربية الجافة.
وبين خطّ امتلاء تراجع، وسدّ يحبس أنفاسه، ومياه لم تعد صالحة كما كانت، يقف الليطاني اليوم كتحذير مفتوح.
حكاية نهر تشبه حكاية أنهار الأردن ووديانه؛ إن لم يتدارك العطش، قد يتحوّل الجفاف من أزمة عابرة.. إلى قدر دائم.
في عالم تتشابك فيه الأزمات، لم تعد المياه والطاقة قطاعين منفصلين، بل باتا وجهين لمعادلة واحدة تحدد قدرة الدول على الصمود والتنمية.
فكل قطرة مياه تحمل في طياتها طاقة محتملة، وكل كيلوواط كهرباء نظيف يبدأ من إدارة رشيدة للموارد المائية، خصوصا في منطقة تعاني من شحّ المياه وتقلّبات المناخ.
ومن هذا الترابط الحيوي بين المياه والطاقة، تبرز مشاريع الطاقة الكهرومائية كنماذج استراتيجية لا تقتصر أهميتها على توليد الكهرباء فحسب، بل تمتد إلى تعزيز أمن الطاقة، ودعم الزراعة، وتحقيق قدر من الاستقرار البيئي.
وفي لبنان، يشكّل نهر الليطاني ومنشآته الكهرومائية مثالا واضحا على هذا الترابط، حيث تتحول المياه المخزنة خلف السدود إلى طاقة تغذّي الشبكة الوطنية.
وفي هذا السياق، جاءت الزيارة الميدانية لمنشآت الليطاني التابعة للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، لتسلّط الضوء على واحدة من أبرز التجارب الإقليمية في إدارة العلاقة بين المياه والطاقة، ولتقدّم صورة عن التحديات والفرص التي تفرضها المتغيرات المناخية على هذا القطاع الحيوي.
وأكد مسؤولون بالمنشآت المائية التابعة للمصلحة، أن منشآت الليطاني الكهرومائية تمثل نموذجا هندسيا متقدما، أنجزته خبرات تقنية متعددة، وأسهمت فيه مدارس هندسية مختلفة، لا سيما الفرنسية، في مجالات الميكانيكا والطاقة، ما جعل من هذه المعامل عنصرا محوريا في تاريخ الطاقة الكهرومائية في لبنان.
فضمن الزيارة الميدانية ذاتها، قام الوفد بزيارة معمل إبراهيم عبد العال الكهرومائي، أحد أبرز منشآت الطاقة التابعة للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، إذ قدم كرتونيس شرحا تفصيليا لآلية عمل المعمل ودوره ضمن منظومة الليطاني لتوليد الطاقة الكهرومائية.
وأوضح القائمون على المنشآت ذاتها أن المياه المستخدمة في المعمل الذي يعد جزءا من منظومة سدّ القرعون - بحيرة القرعون التابعة لنهر الليطاني ويعمل على توليد الطاقة الكهرومائية، من مياه البحيرة التي تمتلئ خلف السد والتي تصل سعتها التخزينية في حال الامتلاء الكامل إلى نحو220 مليون م3.
وقالوا إن المياه تنقل من البحيرة إلى المعمل عبر نفق مائي بطول 6.4 كلم، وبانحدار مدروس يسمح بتحقيق فرق ارتفاع (Head) يعدّ عنصرا أساسيا في عملية توليد الكهرباء.
وأضافوا أن فرق الارتفاع الذي تستفيد منه التوربينات في معمل عبد العال يصل إلى نحو200 متر، ما يتيح للمياه النزول بقوة دفع عالية، مبينا أن كمية المياه التي تمر عبر المعمل تبلغ نحو 22 مليون متر مكعب، يتم تقسيمها بالتساوي على توربينين، حيث يعمل كل توربين بطاقة تدفق تقارب 11 مليون م3.
وأشاروا إلى أن المياه، بعد سقوطها القوي على شفرات التوربين، تقوم بتحويل الطاقة الحركية إلى طاقة ميكانيكية، يتم نقلها عبر عمود دورا إلى المولّد الكهربائي.
ولفت إلى أن عملية التوليد تعتمد على دوران الجزء المتحرك داخل الجزء الثابت، ما يؤدي إلى إنتاج التيار الكهربائي.
وبحسبهم، تنتج الكهرباء في معمل عبد العال بجهد 11 كيلو فولت، قبل أن يتم رفعه بواسطة محوّلات (Transformers) إلى 66 كيلو فولت، ليُصار إلى ضخه على شبكة الكهرباء الخارجية.
وبينوا أن الكهرباء بعد ذلك تصبح بعهدة مؤسسة كهرباء لبنان، التي تقوم بتحويل الجهد لاحقا إلى 15 كيلو فولت لتوزيعه على القرى والمناطق القريبة.
وأوضحوا أن القدرة الإنتاجية لمعمل عبد العال تبلغ قرابة 36 ميغاواط ضمن ظروف التشغيل المثلى موزّعة على وحدتين كل منهما نحو 18 ميغاواط، مشيرا إلى أن ارتفاع منسوب المياه عند سدّ القرعون يصل إلى نحو 800 متر فوق سطح البحر، بينما يبلغ الارتفاع عند نقطة المعمل قرابة 659 م، وهو ما يفسّر فرق الارتفاع المستخدم في عملية التوليد.
وأشاروا إلى أن معمل عبد العال يعد جزءًا من منظومة متكاملة تضم ثلاثة معامل كهرومائية تعتمد على مياه بحيرة القرعون بالطريقة نفسها.
فبعد خروج المياه من معمل عبد العال، تنقل عبر نفق مائي بطول يقارب 17 كلم إلى منطقة تقع أسفل جزّين، حيث تتجمع مجددا قبل أن تستخدم لتوليد الكهرباء في معمل الأوّلي.
وبعد ذلك، تجمع المياه مرة أخرى في حوض خاص لتغذية المعمل الثالث في جون، الواقع قرب الساحل، قبل أن تعاد المياه إلى مجراها الطبيعي.
وأكدوا أن مجموع القدرة الإنتاجية لمنظومة الليطاني الكهرومائية مجتمعة يصل إلى نحو 200 ميغاواط في الظروف المائية الجيدة، ما يجعلها ركيزة أساسية في إنتاج الطاقة النظيفة في لبنان.
وفيما يتعلق بإدارة الموارد المائية، لفتوا إلى أن تشغيل المعامل يخضع لاعتبارات دقيقة مرتبطة بمنسوب المياه في بحيرة القرعون، موضحا أنه عند انخفاض المخزون إلى حدود حرجة، تقارب 15 مليون م3 من أصل السعة الإجمالية، يتم التوقف عن السحب حفاظا على الحد الأدنى من المياه.