أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    16-Jul-2025

خريطة الاقتصاد النقدي العالمي*د.عدلي قندح

 الدستور

مع إعلان ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة إلى 2.7 ٪ خلال شهر يونيو 2025، تدخل السياسة التجارية الأميركية مرحلة جديدة تتجاوز الأهداف المحلّية وتلامس أسس النظام النقدي العالمي ذاته. هذا الارتفاع، الذي يتزامن مع بدء تطبيق سلسلة من الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس ترامب على واردات رئيسية من الصين وأوروبا والمكسيك، لا يمكن قراءته كمجرد حدث عابر في دورة اقتصادية. بل هو نتاج تراكمي لمنظومة قرارات تجارية تستهدف من جهة تصحيح العجز في الميزان التجاري، لكنها من جهة أخرى، تطلق موجة تضخمية تعيد تشكيل سلوك الأسواق، وتؤثر في توجهات السياسة النقدية ليس فقط داخل الولايات المتحدة، بل في الدول المرتبطة عضوياً بالدولار الأميركي.
فالرسوم الجمركية بطبيعتها تؤدي إلى رفع كلفة السلع المستوردة، وهو ما ينعكس مباشرة على أسعار السلع النهائية التي يتحملها المستهلك الأميركي. وفي ظل انكشاف سلاسل الإنتاج على المكونات الأجنبية، تتسرب هذه الكلفة إلى الصناعات المختلفة، فترتفع الأسعار، وتنخفض المنافسة، ويأخذ التضخم بالتصاعد. هذا ما حدث تحديدًا في يونيو، حين بدأت آثار الرسوم تظهر في مؤشر أسعار المستهلكين، لتعيد إلى السطح أسئلة قديمة جديدة حول حدود استخدام السياسة التجارية كأداة داخلية، وتأثيرها على الاستقرار النقدي.
من جهته، يجد مجلس الاحتياطي الفيدرالي نفسه أمام معادلة دقيقة، إذ بات مطالبًا بموازنة بين دعم النمو الاقتصادي والسيطرة على موجات التضخم الناجمة عن عوامل غير نقدية بالأساس. وتبرز هنا مفارقة اقتصادية خطيرة: فبينما كان يُعتقد أن التضخم الأميركي قد استقر في طريقه نحو الاعتدال، دفعت الرسوم الجمركية بالمؤشر مجددًا إلى أعلى، مما يقلص من فرص تخفيض أسعار الفائدة كما كان متوقعًا. ذلك أن الفيدرالي، المستند إلى النظرية النقدية الجديدة التي ترى في أسعار الفائدة القصيرة الأجل أداة فعالة لضبط التوقعات التضخمية، لن يتردد في الإبقاء على سياسته النقدية المتشددة، بل وقد يضطر إلى التشدد أكثر، مما ينذر بمرحلة من التباطؤ الاقتصادي المقصود أو غير المقصود.
لكن ما يحدث داخل الولايات المتحدة لا يبقى داخلها. فالدول التي ترتبط عملاتها بالدولار تجد نفسها محكومة بما يمليه الفيدرالي، حتى وإن كانت أولوياتها الاقتصادية والظروف المحلية مختلفة تمامًا. ففي هذه البلدان، تفرض سياسة الربط الثابت التزامًا ضمنيًا باستيراد السياسة النقدية الأميركية، وهو ما يُجبرها على رفع أسعار الفائدة حفاظًا على استقرار سعر الصرف، بصرف النظر عن طبيعة التضخم المحلي أو مستوى النشاط الاقتصادي. وهكذا تتحول الأزمة من تضخم في المركز إلى عبء مزدوج في الأطراف، يتمثل في تباطؤ اقتصادي وارتفاع تكلفة الاقتراض، بل ويتعدى ذلك إلى تهديدات للاستقرار المالي، خاصة في الدول ذات المديونية المرتفعة والاعتماد الكبير على تدفقات رؤوس الأموال.
وفي إطار أوسع، يمكن النظر إلى هذه الديناميات كدليل إضافي على ما يعرف بمعضلة السياسة الثلاثية في الاقتصاد الدولي، حيث يصعب الجمع بين حرية تدفق رؤوس الأموال، واستقلال السياسة النقدية، وثبات سعر الصرف. ومع اختيار عدد كبير من الدول تثبيت عملتها مقابل الدولار، فإنها تكون قد تنازلت فعليًا عن سيادتها النقدية لصالح قرارات يتخذها بنك مركزي في دولة أخرى.
تتعمق الأزمة أكثر عندما ندرك أن الرسوم الجمركية اليوم لم تعد مجرد أدوات مالية لحماية الأسواق، بل تحوّلت إلى أدوات جيوسياسية لتشكيل علاقات القوة في النظام الدولي. فسياسة ترامب التجارية لا تنفصل عن استراتيجيته في المواجهة مع الصين، أو عن محاولته فرض شروط جديدة على التجارة العالمية. وهكذا يصبح التضخم نتيجة مباشرة لقرار سياسي خارجي، تتحمله الدول الفقيرة والهشة قبل غيرها. وبعبارة أوضح، نحن أمام تضخم «مستورَد» من الجغرافيا السياسية، لا من الاقتصاد الكلي التقليدي.
ومن زاوية تحليلية أكثر عمقًا، فإن السياسات التجارية الأميركية الجديدة تخلق ما يشبه الحلقة المفرغة: تبدأ برسوم جمركية تؤدي إلى تضخم، يقابله تشدد نقدي، ينعكس في شكل تباطؤ عالمي، فينهار الطلب على التجارة والاستثمار، فتتقلص فرص النمو، وتنهار هوامش الدول النامية. والنتيجة هي ما يمكن تسميته «بركود تضخمي محيطي»، أي تضخم محدود في المركز يقابله ركود حاد في الأطراف، وهي ظاهرة غير مألوفة في دورات الاقتصاد التقليدية، ولكنها باتت ممكنة في ظل الاختلال الهيكلي الحالي في بنية الاقتصاد العالمي.
لقد أصبح التضخم الأميركي، نتيجة الرسوم الجمركية، مؤشراً غير مباشر على انتقال الصدمات من المركز إلى المحيط، وتحديداً من قرارات واشنطن إلى اقتصادات عمّان والرياض والقاهرة وبيونس آيرس وغيرها. وفي ظل هذا الواقع، تبدو الحاجة ملحة لإعادة التفكير في طبيعة العلاقة بين الدول النامية والدولار الأميركي، وضرورة ابتكار حلول تخرج من ثنائية التبعية النقدية أو الانفصال الكامل.
ولعل أبرز ما يمكن التفكير به في هذا السياق هو التوجّه نحو تنويع أدوات السياسة النقدية، وتخفيف الاعتماد المفرط على أسعار الفائدة كأداة وحيدة لتحقيق الاستقرار. كما أن إعادة هيكلة نظام ربط العملات ينبغي أن يُطرح بجرأة، عبر الانتقال التدريجي نحو سلال عملات أو أنظمة صرف هجينة، تتيح مزيدًا من المرونة. وعلى المدى القريب، يجب استخدام أدوات تحوط مالي فعالة، بما في ذلك المشتقات المالية والعقود المستقبلية، للحد من تقلبات الدولار وأثرها على الميزانية العامة والاستقرار النقدي.
كما لا يمكن تجاهل أهمية مراجعة الاتفاقات التجارية التي تُعمق الاعتماد على السلع الأميركية أو على سلاسل توريد متمركزة في أميركا، بحيث تسهم الاستراتيجيات التجارية البديلة في بناء قدر أكبر من المناعة الاقتصادية. فالعالم يتجه بوضوح نحو تراجع العولمة التقليدية وصعود «الإقليمية الاستراتيجية»، وهذه فرصة للدول النامية كي تُعيد رسم تموضعها داخل هذا النظام المتغير، لا كمجرد متلقٍ للسياسات، بل كمصمم لإجابات نقدية خاصة بها.
في المحصلة، لم يعد التضخم الأميركي مجرد مسألة داخلية بل غدا أداة لإعادة توزيع الألم الاقتصادي على خارطة العالم، ووسيلة لتثبيت الهيمنة عبر ما يسمى بتصدير الركود إلى الاقتصادات الضعيفة. وفي ظل هذه التحولات، فإن السياسات التجارية لم تعد تنفصل عن السياسات النقدية، ولا الاقتصاد عن الجغرافيا السياسية. ومع كل زيادة في الرسوم، وكل خطوة في رفع الفائدة، يتضح أن ما يحدث في واشنطن لا يبقى في واشنطن.