الدستور
ليكن للأردن عامٌ للزيتون. عامٌ تكتشف فيه البلاد سرَّها الأخضر من جديد، وتعود إلى الشجرة التي ظلّت تكتب تاريخها بصمتٍ على حوافّ الجبال وفي بطون الوديان، كأنها ذاكرة الأرض حين تُنسى الذاكرة. فالأردن لم يُولد من صخرٍ فقط، بل من شجرٍ قاوم العطش، وأورق في وجه العاصفة.
الزيتونة ليست شجرةً فحسب، بل سيرة وطنٍ بأكمله. من أغصانها صُنعت سلال الفقراء، ومن ظلّها احتمى الذاهبون إلى الحقول، ومن زيتها أُوقدت المصابيح في ليالي الريف الطويلة. إنّها الشجرة التي لا تشيخ، والتي تواصل حمل معانيها القديمة كأنها تصلي للأرض.
أن يكون للأردن عامٌ لشجرة الزيتون، فذلك ليس احتفالاً زراعياً، بل عودةٌ إلى الجذر. إنّه نداءٌ إلى الوعي الجمعي كي يستيقظ على رمزه الأبدي. ففي زمنٍ تتكاثر فيه الخرسانة وتذبل الحقول، تصبح شجرة الزيتون ليست مجرد نبات، بل فعل مقاومةٍ بيئية، وثقافية، وروحية في آنٍ واحد.
يمكن أن يكون هذا العام مساحةً لمبادراتٍ تتجاوز الزراعة إلى الرعاية. أن تُنشأ جمعياتٌ محلية تتبنّى صيانة أشجار الزيتون القديمة التي تشهد على تاريخ القرى، وأن تُطلق برامج لتكثير الأنواع النادرة، وتدريب الشباب على العناية بها. فكلّ زيتونةٍ تُزرع هي بمثابة بيتٍ جديد في الريف، وكلّ قطرة زيتٍ تُستخرج هي استمرارٌ لعرقٍ أردنيٍّ قديم يسكن التراب.
ولأن الزيتون هو ابن المناخ الصابر، يمكن أن يكون العام فرصةً لبحوثٍ علمية تُعزّز صموده في وجه تغيّر المناخ، ولتطوير تقنيات حديثة في الريّ والتقليم والحصاد. فالشجرة التي تقف شامخة منذ قرون تستحق أن نردَّ لها الجميل بما يليق بها من علمٍ ومعرفةٍ وإدارةٍ رشيدة.
لكنّ الجانب الأجمل لهذا العام سيكون في إعادة الاعتبار إلى منتج الزيت نفسه، إلى تلك القطرة التي تختصر النور والمطر والتاريخ في آنٍ واحد. يمكن للأردن أن يطلق مهرجانات للزيت والزيتون الأردني تجوب العالم، وتُعرّف بجودة منتجه، وأن تُنظّم حملات لترويج زيت الزيتون الأردني في الأسواق العالمية بوصفه منتجاً يحمل هويةً وذاكرةً لا تُقدّر بثمن.
وليس الزيتون مجرد اقتصادٍ أخضر، بل ثقافة. فمن حقّ الأطفال أن يتعلّموا في مدارسهم معنى الزيتونة في التراث والدين والأدب. ومن حقّ المدن أن تُزيَّن بجدائلها الخضراء، وأن تُقام حولها أمسيات شعرية وفنية تستعيد العلاقة الحميمة بين الإنسان والأرض. إنّها شجرةٌ يمكن أن تكون موضوعاً للتربية البيئية والفنية والوطنية في آنٍ واحد.
تخيلوا لو أطلقنا شعاراً بسيطاً: «عام الزيتون الأردني: شجرة الوطن وظلّه الدائم»، وجعلنا من هذا الشعار ميثاقاً عاماً بين الدولة والمجتمع، بين الفلاح والعالم، بين الحاضر والماضي. تخيلوا لو تحوّل قطاف الزيتون إلى مهرجانٍ وطنيٍ سنوي تتوحّد فيه العائلات كما كانت تفعل قديماً، حيث الغناء والزيت والعرق يصنعون معاً طقساً من طقوس الانتماء.
إن الزيتونة ليست شجرةً غريبة في أرضنا؛ بل نحن الغرباء عنها حين نغفل عنها. هي التي صبرت على الحروب والجفاف، وظلّت تمدّ جذورها عميقاً في الحجارة كأنها تقول لنا: من أراد أن يبقى، فليتشبّه بي.
لذلك، فإن تخصيص عامٍ وطنيٍ لشجرة الزيتون هو في جوهره تخصيص عامٍ للهوية ذاتها، للتماسك الذي يجمع بين الإنسان والتراب. هو نداءٌ لإعادة الروح إلى ما هو أصيل، قبل أن تبتلعنا الحداثة بفراغها الإسمنتيّ.
في النهاية، لا يحتاج الزيتون إلى من يمجّده، بل إلى من يراه. أن نراه كما نرى أنفسنا في مرآة الزمن، لا كشجرةٍ خضراء فحسب، بل كرمزٍ للمثابرة والكرامة والجذور الراسخة في وجه الريح.
فلنعلنها، إذاً، دون تردّد:
ليكن عام 2026 عام الزيتون الأردني، عاماً تُفتح فيه المدارس على الحقول، والقلوب على التراب، والمستقبل على الجذور.
عامٌ تُزرع فيه ألف شجرة جديدة لكلّ شجرةٍ عتيقة، ليظلّ الوطن، كما هو دائماً، غصناً أخضر لا يشيخ.