أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    03-Dec-2025

في نقد نظرية «الاقتصاد أولاً»*محمد أبو رمان

 الدستور

تعود بعض النخب الأردنية اليوم لتكرار نظرية قديمة- جديدة بأنّ الأولوية المطلقة يجب أن تتجه نحو الاقتصاد وتحسين شروط الحياة، وأنّ نقاشات الديمقراطية والإصلاح السياسي لا تعدو أن تكون ترفاً أو انشغالاً بقضايا لا تحتل أي مساحة حقيقية في اهتمامات الناس، وتستند هذه النظرية إلى واقع ملموس تدعمه استطلاعات الرأي التي تُظهر بصورة منتظمة أنّ الهمّ الاقتصادي يحتل المراتب الثلاث الأولى عند الأردنيين، وبخاصة الشباب منهم، وأنّ مستويات الثقة في المؤسسات السياسية، بخاصة التمثيلية منها، في أدنى مستوياتها. الأحزاب السياسية لم تنجح بعد في تقديم نفسها كخيار جاذب أو مقنع، ومجلس النواب لا يحظى باهتمام أو تقدير واسع.
المشكلة تبدأ عندما يتحوّل هذا التوصيف إلى «نظرية» أو «خيار سياسي»، أي مبرّراً لتأجيل الإصلاح السياسي أو اعتباره عائقاً أمام الإصلاح الاقتصادي، فإذا كان البعض يرى أنّ علينا أن نركّز على الاقتصاد وحده، وأن نسير في عملية إصلاح اقتصادي بمعزل عن مسار التحديث السياسي الذي انطلق قبل خمسة أعوام، وقد واجه – مثل أي مشروع ديمقراطي انتقالي – إشكاليات وتحديات، فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه هو: ألم نجرّب هذا الخيار من قبل؟ ألم يسبق أن كان لدينا تيار نافذ في النخب السياسية يؤكد دوماً أنّ الأولوية للاقتصاد قبل السياسة، وأنّ الانفتاح السياسي يمكن تأجيله إلى حين استقرار الاقتصاد؟
النتائج التي وصلنا إليها في العقود السابقة تقدّم الإجابة الأوضح والأكثر صراحة: التركيز على الاقتصاد بمعزل عن الإصلاح السياسي لم ينتج تنمية مستدامة، ولا ثقة شعبية، ولا شرعية أقوى للحكومات المتعاقبة، وعندما تتآكل الثقة السياسية، فإنّ أي قرار اقتصادي – حتى لو كان ضرورياً وصحيحاً – يتحوّل تلقائياً إلى عبء سياسي ويُقابل بالرفض، ما يدفع الدولة للجوء إلى سياسات الاسترضاء بهدف تجنب الاحتجاجات أو الأزمات. وبهذه الطريقة يدخل الاقتصاد ذاته في دائرة التراجع والتقييد ويفقد القدرة على الفعل والابتكار. أي أنّ غياب الإصلاح السياسي أضعف الاقتصاد بدل أن يجنّبه المخاطر.
وفي خضم هذا النقاش، يُستدعى النموذج الصيني أو ما يسمى بـ»السلطوية الليبرالية» بوصفه مثالاً على إمكانية تحقيق نمو اقتصادي كبير دون انفتاح سياسي. لكنّ هذا النموذج مرتبط بسياقه التاريخي والثقافي والاجتماعي، بقارة بحجم الصين وتاريخها الحزبي وبنيتها الإنتاجية والديمغرافية، وهو سياق لا يمتّ بصلة للحالة الأردنية. كما أنّ الدول الريعية التي تمتلك وفرة نفطية قادرة على شراء الولاء الاجتماعي أو بناء نموذج توزيع ريعي، لا تشبه الأردن في شيء. ليست لدينا الوفرة نفسها ولا الظروف الاجتماعية ذاتها ولا حتى طبيعة العقد الاجتماعي القائم في تلك الدول. وبالتالي فإنّ استدعاء هذه النماذج هو نوع من المقارنات الخاطئة التي تتجاهل أنّ الدول الصغيرة ومتوسطة الموارد مثل الأردن لا يمكن أن تبني قوة اقتصادية مستدامة من دون شرعية سياسية ومؤسسات قوية وثقة عامة.
هذه الفكرة ليست تنظيراً مجرداً؛ بل هي محور كتاب «لماذا تفشل الأمم؟» الذي يعدّ اليوم أحد أهم المراجع في فهم العلاقة بين المؤسسات السياسية والاقتصاد؛ إذ يوضح الكتاب أنّ الأمم لا تنجح لأنها تمتلك سياسات اقتصادية جيدة فقط، بل لأنها تمتلك مؤسسات سياسية شاملة وقادرة على إنتاج الشفافية والمساءلة وتوزيع السلطة ومنع الاحتكار وخلق بيئة تنافسية سليمة. المؤسسات السياسية الجيدة ليست قيمة معنوية فحسب؛ إنها محرك اقتصادي جوهري لأنها تولّد ثقة عامة، وتخفض كلفة المخاطرة، وتمنح المستثمر والمواطن شعوراً بأنّ القواعد واضحة وتُطبَّق على الجميع، وأنّ الدولة لا تتقلب تبعاً للأمزجة أو الأفراد. الأمم التي أخفقت، وفق الكتاب، ليست تلك التي أخفقت اقتصادياً فقط، بل تلك التي فشلت في بناء مؤسسات سياسية شاملة ومنفتحة ومسؤولة.
وبذلك، فإنّ الأردن – الذي اختار مسار التحديث الشامل عبر المزاوجة بين الإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري – يسير في الاتجاه الأكثر واقعية واتساقاً مع بنيته وتاريخه وشروط نجاحه. هذا المسار ليس رفاهية، وليس خياراً تجميلياً، بل ضرورة لحماية الاقتصاد ذاته من الانكشاف السياسي، ولتحصين الدولة أمام التحديات المتزايدة، ولإعادة بناء علاقة الثقة بين الدولة والمجتمع، وخاصة الشباب الذين يشكّلون رصيد المستقبل وشرط استدامته.