بكين: «الشرق الأوسط»
بدأت دول نامية في آسيا وأفريقيا إعادة النظر في التزاماتها المالية تجاه الصين، أكبر ممول للبنية التحتية في العالم، بينما تواجه بكين ضغوطاً متزايدة لإعادة هيكلة ديون «الحزام والطريق» بعد سنوات من الإنفاق المكثّف. ففي أقل من 48 ساعة، أعلنت كل من إندونيسيا وكينيا خطوات منفصلة لإعادة صياغة علاقاتهما التمويلية مع الصين، في تحرك يرى محللون أنه يعكس تحوّلاً تدريجياً نحو إدارة أكثر حذراً للديون المرتبطة بالمشروعات العملاقة.
إندونيسيا... «إصلاح شامل» لقطار فائق السرعة
في جاكرتا، كشفت وزيرة الاستثمار الإندونيسية روزان روسلاني، أن حكومتها دخلت في مفاوضات رسمية مع بكين بشأن إعادة هيكلة ديون مشروع «قطار جاكرتا-باندونغ» فائق السرعة، الذي تبلغ قيمته نحو 7.3 مليار دولار.
وقالت روزان في تصريحات نقلتها «رويترز» إن الهدف هو «تنفيذ إصلاح شامل يضمن عدم تكرار أي مخاطر للتعثر في المستقبل».
المشروع، الذي يُعدّ الأول من نوعه في جنوب شرقي آسيا، انطلق عام 2016 بدعم تمويلي وتقني من الصين، وكان يفترض أن يبدأ التشغيل في 2019. لكنه واجه سلسلة من العقبات، من بينها مشكلات في شراء الأراضي وتأخيرات مرتبطة بجائحة «كوفيد-19» وارتفاع كبير في التكاليف، مما أدى إلى تأجيل تشغيله لأكثر من أربع سنوات.
ويُنظر إلى هذا المشروع على أنه رمز للشراكة الاقتصادية بين الصين وإندونيسيا، لكنه في الوقت ذاته يعكس مخاطر التمويل المعتمد على القروض السيادية وضمانات الدولة. إذ اضطرت جاكرتا سابقاً إلى ضخ أموال إضافية لتغطية تجاوزات التكلفة، وسط انتقادات داخلية بشأن عبء الدين العام الذي يقترب من 40 في المائة من الناتج المحلي.
الوزيرة لم تكشف تفاصيل هيكل الدين الجديد أو الجدول الزمني للاتفاق مع الصين، لكنَّ مراقبين في جاكرتا أشاروا إلى أن المفاوضات تشمل مزيجاً من تمديد آجال الاستحقاق وإعادة تحديد الفائدة لتقليل الضغوط على المالية العامة، بالتزامن مع إعادة تقييم الأداء المالي لشركة «كيه سي آي سي»، المشغِّلة للمشروع والمملوكة جزئياً للحكومة الإندونيسية وشركات صينية.
كينيا... التحول إلى اليوان لتقليل تكلفة الدين
في المقابل، أعلنت كينيا أنها أكملت تحويل قروض صينية بقيمة 3.5 مليار دولار من الدولار الأميركي إلى اليوان الصيني، في خطوة تهدف إلى تقليل تكلفة الفائدة السنوية بنحو 215 مليون دولار، وفقاً لوزير المالية الكيني جون مبادي.
وقال مبادي في مؤتمر صحافي: «التحويل يبدأ فوراً... إنه يتيح لنا وفراً مالياً ملموساً في الموازنة».
القروض الثلاثة التي تمت إعادة تسعيرها كانت قد مُنحت عامي 2014 و2015 من بنك التصدير والاستيراد الصيني (China Exim Bank)، لتمويل الخط الحديدي الحديث الذي يربط ميناء مومباسا بمدينة نيفاشا في وادي الصدع. وحسب وزارة المالية الكينية، فإن القروض المستحقة انخفضت إلى 3.5 مليار دولار بحلول منتصف 2024.
وأكد كبير المستشارين الاقتصاديين للرئيس ديفيد ندي، أن نيروبي مدّدت أيضاً فترات السداد، في إطار ما سماها «إعادة مواءمة هيكل الدين مع قدرتنا على السداد». وكتب على منصة «إكس»: «لقد أعدنا أيضاً جدولة آجال الاستحقاق لتخفيف الضغط المالي». وبينما لم تُعلق الصين رسمياً على عملية تحويل العملة، أوضح مسؤولون كينيون أن الخطوة تهدف أيضاً إلى تقليل مخاطر سعر الصرف الناتجة عن هيمنة الدولار على ديون البلاد، إذ يشكل الدولار نحو 68 في المائة من إجمالي الدين الخارجي لكينيا... وتقترب نسبة الدين العام الكيني من 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين تسعى حكومة الرئيس ويليام روتو إلى تبنّي استراتيجية جديدة لإدارة الدين تشمل توريق الإيرادات الحكومية وتمديد منحنى النضج المالي.
«الحزام والطريق»... من التوسع إلى إعادة التقييم
ومنذ إطلاق مبادرة «الحزام والطريق» عام 2013، موّلت الصين أكثر من 900 مشروع بنية تحتية حول العالم بقيمة تتجاوز تريليون دولار، معظمها في الدول النامية. لكن مع تباطؤ النمو الصيني وارتفاع معدلات الفائدة العالمية، بدأت بكين تواجه مطالب متزايدة بإعادة هيكلة هذه القروض لتجنب موجة تعثر محتملة.
وتشير بيانات مركز «إيد داتا» الأميركي إلى أن أكثر من 60 في المائة من القروض الخارجية الصينية تواجه تأخيرات أو مخاطر سداد. وقد أعادت الصين بالفعل جدولة أو خفّضت ديون دول مثل سريلانكا وزامبيا وإثيوبيا.
في هذا السياق، تمثل التحركات الأخيرة في إندونيسيا وكينيا مؤشراً لمرحلة أكثر واقعية في الدبلوماسية المالية الصينية، حيث تسعى بكين إلى الحفاظ على نفوذها الاقتصادي، لكنها تُظهر استعداداً أكبر لتعديل شروط القروض بما يضمن الاستقرار المالي للدول المقترضة واستمرار المشاريع الاستراتيجية.
اختبار للصين
ويرى خبراء الاقتصاد أن ما يجري هو إعادة تموضع تدريجية للعلاقات المالية جنوب-جنوب... فبدلاً من التركيز على التوسع السريع في الإقراض، تتجه الصين نحو نموذج أكثر انتقائية يعتمد على المراجعة الدورية للمشروعات القائمة وتقييم الجدوى طويلة المدى.
أما بالنسبة إلى الدول النامية، فإن التجربتين الكينية والإندونيسية تقدمان درساً مزدوجاً، مفاده أن التفاوض المبكر على إعادة الهيكلة قد يمنع الأزمات المالية لاحقاً، وأن تنويع العملات والسياسات التمويلية بات ضرورياً لتفادي الاعتماد المفرط على الدولار أو الدائنين الخارجيين.
وفي النهاية، يبدو أن القطارين السريعين في آسيا وأفريقيا ليسا مجرد مشروعَي نقل، بل رمزٌ لسرعة التحول في العلاقات الاقتصادية مع الصين؛ من التمويل السهل إلى الديون المحسوبة، ومن النمو بأي ثمن إلى الإدارة الواعية للمخاطر.