بعد نجاح "ديب سيك".. متى نجني ثمار دعم الريادة والابتكار؟
الغد- ابراهيم المبيضين
عاش العالم الرقمي خلال الأسابيع القليلة الماضية "قصة من الطراز الرفيع" بعدما أعطت الصين -في مضمار التكنولوجيا- دروسا للدول وشركات التقنية والرياديين.
وأثارت قصة نجاح التطبيق الصيني "ديب سيك" طموحا وآمالا كبيرة للشباب والرياديين وحتى الحكومات، فالابتكار وإنتاج التقنية الحديثة لم يعد حكرا على عمالقة التكنولوجيا، وأن السوق مفتوحة أمام الجميع للإنتاج بعيدا عن استهلاك التقنية، إذا ما توافرت مجموعة من العوامل أهمها الإصرار والرؤية والتمويل والتعليم والبحث العلمي وخصوصا في صناعة مثل الذكاء الاصطناعي التي تعد اليوم " مستقبل الاقتصاد"، وفقا لما أكد عليه خبراء محليون.
وبين خبراء أن الأردن لديه فرصة حقيقية للتحول من مستهلك إلى منتج في صناعة الذكاء الاصطناعي، ولكن هذا يتطلب إرادة واستثمارات كبيرة وتضافر جهود جميع القطاعات، كما يتطلب عملا على تعزيز التعليم، ودعم الريادة التقنية، وتطوير البنية التحتية.
وأوضح الخبراء أنه يجب العمل اليوم على تأسيس قاعدة قوية لصناعة الذكاء الاصطناعي في الأردن، والاستثمار في هذا المجال، والعمل بجد في قطاع الريادة حتى تصبح شركاتنا الريادية مثمرة ومؤثرة أكثر في القطاعات التي تعمل فيها ، فضلا عن دور يمكن أن يلعبه المجلس الوطني لتكنولوجيا المستقبل الذي تأسس أخيرا من خلال وضع إستراتيجية تقود التحول من الاستهلاك إلى إنتاج هذه التقنية وتطويعها لخدمة كل القطاعات الحيوية.
وتغيب الأفكار والشركات الناشئة المؤثرة في السوق المحلية اليوم مع ضعف الابتكار فيها، إذ لم تتكرر في السنوات الأخيرة قصص نجاح اردنية مؤثرة من امثال " مكتوب" و " جواكر" التي أحدثت تأثيرا كبيرا على المستويين العربي والعالمي، إذ أشار الخبراء إلى أن تقديم دعم حقيقي للريادة وتحفيز للرياديين على الابتكار والبحث العلمي يمكن ان يخرج من جديد قصص ريادة محلية ناجحة.
وعلى مدار الأسبوعين الماضيين أحدث"ديب سيك" ضجة كبيرة في العالم الرقمي بشكل عام وفي وادي السليكون، إذ أدهش المستثمرين والخبراء في هذا المجال بقدرته على منافسة نظرائه الغربيين بكفاءة عالية وبتكلفة أقل بكثير، إذ نافس هذا النموذج الثوري للذكاء الاصطناعي لاعبين بارزين مثل " جيميناي" من جوجل و " تشات جي بي تي" من " اوبن اييه اي" ، ليتصدر التطبيق قائمة المتجر الإلكترونية للهواتف الذكية، ما أثار اضطرابا في سوق الأسهم الأميركية.
وأسس التطبيق الصيني "ليانغ وينفنغ" ابن الاربعين عاما، مع مجموعة من الشركاء حيث بدأ في عام 2021 أي قبل قيود أميركا على تصدير أشباه المولات للصين، بشراء الآلاف من شرائح إنفيديا كجزء من مشروع جانبي للذكاء الاصطناعي، واعتبرها أصدقاؤه هواية غريبة لا يبدو أنها ستؤدي إلى شيء، إلا أن "ليانغ وينفنغ" كان يقول وقتها: "أريد بناء هذا، وسيكون مغيرًا لقواعد اللعبة"، وفقا لما روته تقارير اخبارية عالمية.
الخبير في مجال التقنية د.حمزة العكاليك قال "قصة شركة "ديب سيك" الصينية، التي نجحت في تطوير نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة، تعطينا عدة دروس مهمة من أهمها الاستثمار في البحث والتطوير فالشركة الصينية ركزت على الابتكار وتطوير تقنيات متقدمة، وهو ما يحتاج إلى تمويل كبير ودعم حكومي".
وأشار إلى أهمية تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص وهي من خطوة مهمة اعتمدت عليها الشركة عندما تعاونت مع جامعات ومراكز بحثية لتحقيق تقدم سريع، علاوة على أهمية بناء قاعدة بيانات قوية التي يحتاجها الذكاء الاصطناعي يعتمد على البيانات، حيث استثمرت "ديب سيك" في جمع وتحليل البيانات بكفاءة.
وقال العكاليك إن "الشركة الصينية عملت أهلت الكوادر البشرية، واعتمدت على كفاءات محلية ودولية مدربة تدريبا عاليا، مع التركيز على التطبيقات العملية التي كان له دور في نجاح هذه الأداة".
قاعدة قوية للذكاء الاصطناعي؟
وحول إمكانية بناء الأردن قاعدة لصناعة قوية في الذكاء الاصطناعي قال العكاليك "الأردن "لديه فرصة حقيقية للتحول من مستهلك إلى منتج في صناعة الذكاء الاصطناعي"، ولكن هذا يتطلب إرادة واستثمارات كبيرة وتضافر جهود جميع القطاعات".
ولفت إلى أن مجلس تكنولوجيات المستقبل يجب أن يقوم على وضع "إستراتيجية وطنية "وتنسيق الجهود بين الجهات المختلفة لتأسيس وبناء قاعدة لصناعة وطنية في الذكاء الاصطناعي.
وأوضح أن ذلك يتطلب تعزيز التعليم والتدريـب من خلال إدخال الذكاء الاصطناعي في المناهج الدراسية بدءا من المراحل الأساسية وصولا إلى الجامعات، وإنشاء برامج تدريبية متخصصة بالتعاون مع الجامعات ومراكز التدريب الدولية، والعمل على تأسيس معاهد بحثية متخصصة.
دعم الريادة والابتكار
أكد العكاليك أهمية دعم الريادة والابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي بتوفير التمويل للمشاريع الناشئة من خلال صندوق وطني لدعم شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة، والعمل على إنشاء حاضنات أعمال ومسرعات لتوفير البيئة المناسبة لتطوير الأفكار وتحويلها إلى منتجات، وتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتعزيز الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، فضلا عن أهمية الاستثمار في البنية التحتية التكنولوجية بتطوير شبكات اتصالات فائقة السرعة مثل الجيل الخامس.
وأشار العكاليك إلى أهمية بناء مراكز بيانات محلية لتخزين ومعالجة البيانات بكفاءة، وتوفير حواسيب فائقة القوة لدعم الأبحاث المتقدمة.
وقال " لا بد من العمل تطوير نموذج ذكاء اصطناعي محلي فبالاعتماد على البيانات المحلية واحتياجات السوق الأردني".
تأهيل الشباب وتحفيزهم للإنتاج
وشدد على أهمية تأهيل الشباب من خلال وجود منح دراسية في مجال الذكاء الاصطناعي للطلاب المتميزين للدراسة في جامعات عالمية يعتبر من العوامل المهمة لاكتساب المهارات والحصول على أحدث العلوم في هذا المجال، وتوفير تدريب عملي في الشركات العالمية لتعريف الشباب بأحدث التقنيات، وتنظيم مسابقات وهاكاثونات لتحفيز الإبداع والتنافس بين الشباب.
وقال العكاليك "لا بد من تعزيز التعاون الدولي فالشراكة مع دول رائدة في الذكاء الاصطناعي مثل الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي يمكن ان يحدث اثرا ايجابيا".
ولفت إلى أهمية جذب الإستثمارات الأجنبية، من خلال تقديم حوافز ضريبية وتسهيلات للشركات العالمية، وتعزيز الثقافة الرقمية من خلال حملات توعية لأهمية الذكاء الاصطناعي وكيفية الاستفادة منه، ووضع إطار تشريعي يدعم الابتكار ويضمن الأمان الرقمي.
الذكاء الاصطناعي هو المستقبل
يرى الشريك المؤسس في صندوق " فكر فينتشرز" محمد الخواجا أن العالم يشهد سباقا غير مسبوق للسيطرة على المستقبل من خلال الاستثمار في تقنيات الذكاء الاصطناعي، مشيرا إلى أن أكبر دليل على ان الذكاء الاصطناعي بات يشكل المستقبل هو التسابق الكبير بين الصين وأميركا في هذا المجال وخصوصا بعد ظهور تطبيق " ديب سيك" الصيني الذي خلط الأوراق في صناعة الذكاء الاصطناعي عندما قدم نموذجا أقل كلفة يضاهي في الاستخدام والمزايا البرامج الأميركية على رأسها تطبيق " تشات جي ب تي" ما أحدث انقلابا وثورة في هذه الصناعة التقنية المتقدمة.
ثروة بشرية في الأردن
بين الخواجا أن الأردن يمتلك ثروة بشرية هائلة، حيث إن أكثر من 60 % من سكانه هم من الشباب، وهم يواجهون معدلات بطالة مرتفعة في اقتصاد يعاني تباطؤ النمو، مؤكدا أن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون المحرك الأساسي لتغيير هذه المعادلة.
وبين قائلا " إذا أخذنا التجربة الأميركية كمثال، فإن مشروعا بحجم أقل – على سبيل المثال استثمار بقيمة مليار دولار – يمكن أن يُحدث أثرا هائلا على الاقتصاد الأردني، من خلال توفير آلاف الوظائف في قطاعات التكنولوجيا المختلفة".
وقال الخواجا "قطاع التعليم وتقنيات التعليم يلعبان دورا كبيرا في بناء مجتمع واع ومؤهل لاستيعاب وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي" مشيرا إلى أنه من خلال الاستثمار في التعليم الرقمي والتقنيات التعليمية المتطورة، يمكن للأردن تأهيل جيل جديد يمتلك المهارات اللازمة للتفاعل مع التحديات المستقبلية.
تأسيس قاعدة قوية لصناعة الذكاء الاصطناعي
ويرى الخواجا أنه اليوم يجب البدء بتأسيس قاعدة قوية لصناعة الذكاء الاصطناعي وتحضير الجيل الحالي لما هو قادم، ودعم تأسيس صناديق الاستثمار المغامر التي تستثمر في تكنولوجيا المستقبل ومنها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، لان هذا النهج يضمن شراكة فاعلة مع رؤوس الأموال ويقلل من كلفة الاستثمار على رأس المال المغامر، ما يتيح فرصا أكبر لدخول السوق المحلية وتعزيز الابتكار.
الاستثمار في الشركات الناشئة
وأكد أهمية دعم البرامج التعليمية الفاعلة في مجال الذكاء الاصطناعي والمهارات المرتبطة بها، فالاستثمار في التعليم هو المفتاح لتأهيل الأجيال القادمة للتعامل مع هذه التقنيات المتقدمة.
وقال "الاستثمار في الشركات الناشئة والعقول هو الوجهة المثلى لصناعة تغيير حقيقي في مجتمع فتي ومبتكر وريادي مثل المجتمع الأردني، فمن خلال استثمار ذكي ومستدام في التعليم والتكنولوجيا، يمكن للأردن أن يؤسس لنفسه مكانة رائدة في العالم الرقمي ويضمن مستقبلا مشرقا لأجياله القادمة".
ديب سيك نموذج مثالي لرياديي الأعمال
الخبير في مجال الاتصالات والتقنية وصفي الصفدي يرى أن قصة "ديب سيك" تعد نموذجا مثاليا لرواد الأعمال، يدعوهم للبحث الدائم عن " الابتكارات المُغيّرة"، ويحث على التفكير الإبداعي.
وأوضح قائلا "عندما يتميز منتج ما، رغم حداثة عمره، بمزايا تنافسية عالية تُضاهي عمالقة الذكاء الاصطناعي، فهو يمتلك القدرة على إحداث نقلة نوعية في ساحة المنافسة العالمية، لان الفكرة القوية القادرة على تغيير قواعد اللعبة، تُحدث زخما كبيرا، حتى وإن كانت حديثة العهد".
أهمية الابتكار للأفكار الريادية
وأكد أهمية " الابتكار" في الأفكار الريادية، لانها تُقدّم مزايا فريدة وتلبي احتياجات شرائح مُختلفة من المجتمع، وتمتاز بسهولة الوصول إليها مقارنة بالمنتجات والخدمات المُحتكرة، التي تفتقر للمزايا التنافسية، وبالتالي تسيطر على الأسواق.
وبناء عليه، أكد الصفدي أنه يجب التركيز على اختيار المنتج، والسوق، والشريحة المستهدفة، والوقت، والمكان، والسعر المناسبين، لتحقيق أعلى معدلات نجاح، خاصة في الأسواق الناضجة، الجاهزة لدخول منتجات جديدة بسرعة، مدفوعة بالضجة التكنولوجية.
ودعا الصفدي الرياديين الى استغلال هذه اللحظات لإطلاق منتجاتهم، والاستفادة من الضجة السوقية لجذب انتباه المُنافسين والمُستثمرين على حد سواء، خاصة إذا تميّز المنتج بمزايا تنافسية عالية.
تحديات تواجه الإنتاج التقني
ويرى الصفدي أن التطور التكنولوجي في العالم العربي والأردن يشكل ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي والتحول الرقمي، لكنه يواجه تحديات تعيق التحول من الاستهلاك إلى الإنتاج، أبرزها ضعف الاستثمار في البحث والتطوير، ونقص الكفاءات المتخصصة، وعدم جاهزية البنية التحتية الرقمية بالشكل المطلوب.
وقال "الاعتماد على الحلول والبرمجيات الأجنبية دون تطوير بدائل محلية يحدّ من القدرة على بناء صناعة تقنية قوية ومستدامة".
ولتجاوز هذه العقبات دعا الصفدي الى تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، ودعم الابتكار وريادة الأعمال في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، إلى جانب تحسين البيئة التشريعية لتشجيع الاستثمارات في القطاع التكنولوجي.
الطاقة ومراكز البيانات
وفي سياق متصل، قال: مع تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي والخدمات الرقمية، يزداد الطلب على الطاقة والتبريد لمراكز البيانات، ما يشكّل تحديًا بيئيًا واقتصاديًا. إذ تعتمد معظم دول المنطقة على الوقود الأحفوري كمصدر رئيسي للطاقة، ما يؤدي إلى ارتفاع الانبعاثات الكربونية وتكاليف التشغيل. لذلك، يجب التركيز على استخدام مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح لتشغيل مراكز البيانات، إلى جانب تبني تقنيات التبريد الموفرة للطاقة، مثل التبريد بالغمر السائل والتبريد بالهواء الطبيعي.
واشار الى انه يمكن الاستفادة من تجارب شركات عالمية مثل جوجل ومايكروسوفت، التي حققت تقدماً في الحد من استهلاك الطاقة والاعتماد على حلول صديقة للبيئة، مما يتيح نموذجًا يُحتذى به للمنطقة.
دعم الابتكار
وقال الصفدي "لتحقيق التحول الرقمي المستدام في المنطقة فنحن بحاجة الى استراتيجية شاملة تدمج التكنولوجيا مع الحلول البيئية، مع دعم السياسات التي تحفّز الابتكار والاستثمار في البنية التحتية الذكية، لضمان تحقيق تقدم ملموس في صناعة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي".