أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    20-Jan-2021

اقتصاد ما بعد “كورونا”*عدنان أحمد يوسف

 الغد

انتهينا في مقالنا الذي نشرناه الأسبوع الماضي إلى ضرورة أن يتبنى العالم رؤية اقتصادية جديدة مستمدة من الدروس التي تعلمناها من جائحة “كورونا”، تقوم على التركيز على تنمية الاقتصاد الحقيقي الذي أثبتت الأزمة أننا بحاجة لضخ استثمارات كبيرة فيه لكي نخلق اقتصادا قادرا على مقاومة الصدمات المفاجئة ويحمي البشر والمجتمع بصورة مستدامة.
ترى مجلة “فورين بوليسي”، وهذا أيضا تجمع عليه الكثير من التحليلات، أن جائحة “كورونا” أظهرت أن العالم كان غير موحد في مواجهة الأزمة، وأن دولا كثيرة، وفي المقدمة منها الدول الصناعة المتقدمة، بما فيها تلك الدول التي بينها تكتلات اقتصادية وسياسية مثل الاتحاد الأوروبي، كانت مفككة في مواجهة الأزمة، وحصل بينها تدافع كبير في سبل هذه المواجهة وفي الحصول على أدوية العلاج، وأيضا اللقاحات، ما ألقى بالمزيد من الشك بشأن جدوى ما سمي بعولمة الاقتصاد العالمي.
لقد شهدنا، وبالذات في بداية الأزمة، انكفاء الدول كافة عن مجالاتها الحيوية ومحاورها وأحلافها؛ إذ رأت نفسها كأنها عادت إلى نمط اكتفاء ذاتي قديم. فالدول الأوروبية لم تستطع مساعدة إيطاليا وإسبانيا عند ذروة الأزمة. واضطر هذان البلدان للانتظار، ومن ثم استيراد الكمامات وآلات التنفس الاصطناعي وغيرها من الصين وحتى من روسيا. كما اضطرت الولايات المتحدة، القوة العظمى في العالم، انتظار وصول الكمامات من الصين. وقد توقف إلى حد كبير استيراد الغذاء والمأكولات، واضطر كل بلد إلى الاتكال على نفسه حتى لو كلفه ذلك تضخماً في الأسعـار، أو نقصـاً مؤقتاً في بعض السلع.
وهذا يقودنا إلى نتيجة رئيسية، وهي أننا بعد تلاشي الجائحة سوف نجد أنفسنا ملزمين بالحديث عن عالمٍ مختلف اقتصادياً، يعيد الاعتبار إلى الإنتاج الوطني. إنه يعني العودة إلى الاقتصاد الحقيقي. كما أن جانبا من الدروس الرئيسية للأزمة هو أن الدولة مهما سعت لتقليص وظائفها بحجة إفساح المجال للقطاع الخاص للعب دور أكبر في الاقتصاد، فإنها يجب عليها أن تضمن وجود شبكة صحية ورعاية اجتماعية قوية، وأن تكون قادرة في أوقات الأزمات ممارسة دور رئيسي في حماية المجتمع، وأن تشجع كذلك القطاع الخاص، بما في ذلك المؤسسات المالية، على توجيه الأموال نحو الاقتصاد المنتج الحقيقي.
الاقتصاد الحقيقي يتعلق بالعمليات والمعاملات التي تدور حول إنتاج وتوزيع السلع والخدمات، وسمي حقيقياً لأن الغرض من الاقتصاد هو الأنشطة التي تعمل على إشباع الحاجات من الموارد، فالاقتصاد الحقيقي يتعامل في المـوارد الاقتصادية بالإنتاج ويوظف العاملين ويوفر السـلع والخدمات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم؛ أي تكامل رأس المال المنتج والمالي. وهذا الحديث لم يعد نظريا، فالجائحة أثبتت حاجة دول العالم إلى تطوير وتعزيز أمنها الصحي والغذائي وتأمين سلاسل التوريد، وحماية مجتمعاتها وبالوقت ذاته تمتلك مرونة اقتصادية كافية لتلقي صدمات الأزمات المشابهة والتعامل معها. ونحن هنا لا نفترض بطبيعة الحال أن كل دولة قادرة على تحقيق هذه الأهداف وحدها. ولكن يجب أن تسعى للدخول في تكتلات أو ترتيبات إقليمية وقارية تركز استراتيجياتها على تحقيق المصالح المشتركة القائمة على تحقيق هذه الأهداف.
ويمكن العودة كمثل على ما نذكره هو تجربة الاقتصاد الأميركي الذي خرج من الكساد الكبير العام 1929 بفضل التركيز على توسيع حجم الاقتصاد وتوليد تراكمي للوظائف وزيادة القدرة الشرائية، كل هذا تم بالاستناد إلى الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي وتحييد القطاعات التي تولد الدين دون مقابل مادي أو خدمي. وهذه الحقيقة يجب أن نتذكرها كلما عانت الاقتصادات من ركود أو وباء أو كساد.
ونحن بإمكاننا أن نجزم كذلك أن أحد الأسباب التي أدت إلى الأزمة العالمية العام 2008 وكذلك الضعف والتباطؤ الذي واجه العالم عند تفشي تداعيات أزمة كورونا هو الابتعاد عن الاقتصاد الحقيقي وعن الاستثمار في البشر والصحة والتعليم والإنتاج مقابل التركيز على الاقتصاد المالي الورقي والمضاربات والمشتقات المالية وغيرها.
كما أن جائحة “كورونا” أظهرت الأهمية الكبيرة للتكنولوجيا التي تمكننا من العمل في أي مكان وفي أي وقت وتقديم الخدمات كافة عبر “الاونلاين”. وبذلك قدمت التكنولوجيا مساهمة كبيرة خلال الأزمة الراهنة في حماية المجتمع والأفراد والاقتصاد. ويجب أن تسخر هذه التحولات التكنولوجية في خدمة التحول نحو الاقتصاد الحقيقي من خلال التوسع في إدخالها في خدمات التعليم والصحة والاقتصاد وحماية المجتمع، وتسخير الإمكانيات البشرية والمادية في زيادة الانتاجية وتحسينها ورفع كفاءتها.
وأخيرا، وكما تستنج مجلة فورين بوليسي، فإن أزمة “كورونا” أثبتت أن الدول التي لديها نظم حوكمة فاعلة هي الأقدر على مواجهة الأزمات والتغلب عليها. ونحن نقول إن دول العالم أجمع لا تستطيع، ولا يستطيع العالم العربي تحديداً، تجاهل دور نظم الحوكمة في بناء الأرضية المناسبة لمستقبل واعد. إن الحوكمة على مستوى قطاعات الأعمال، وعلى مستوى عمل الحكومات تعني، من جملة ما تعنيه، مواجهة هدر الموارد والفساد ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب وترشيد النفقات وتعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة وترشيد اتخاذ القرارات، وهي جميعها من متطلبات التحول إلى اقتصاد ومجتمع منتج ومستدام.