مؤتمر إشبيلية لتمويل التنمية.. نحو عدالة مالية تخدم شعوب الجنوب العالمي*أحمد عوض
الغد
مع اقتراب موعد انعقاد المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية في مدينة إشبيلية الإسبانية نهاية حزيران الحالي، تتجدد الدعوات إلى إعادة النظر في النموذج العالمي لتمويل التنمية، وسط اتساع الهوة بين الشعارات الأخلاقية التي ترفعها الدول الغنية بشأن دعم التنمية المستدامة واحترام حقوق الإنسان، وبين الممارسات الفعلية التي تكرّس التبعية المالية والسياسية لدول الجنوب.
يأتي المؤتمر أيضا في الوقت الذي تواصل فيه القوى الغربية الكبرى دعمها للاحتلال الإسرائيلي وعدوانه المتواصل على الشعب الفلسطيني، وتتغاضى عن جريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي تُرتكب في غزة والضفة الغربية، وعدوانها على ايران مؤخرا، تنسحب هذه الدول تدريجياً من التزاماتها التنموية تجاه الجنوب العالمي. فعلى الرغم من تعهدها عام 2015 بتخصيص 0.7 % من ناتجها المحلي الإجمالي كمساعدات رسمية لدعم التنمية، لم يتجاوز ما قدمته فعلياً 0.35 %، وغالباً ما كانت هذه المساعدات مشروطة، موجّهة سياسياً، وتُستخدم كأداة ضغط.
لقد أصبح واضحاً أننا نعيش نهاية زمن المنح الطوعية، وبداية مرحلة جديدة تُستخدم فيها أدوات التمويل كوسائل لإدامة السيطرة الجيوسياسية. فالمؤسسات المالية الدولية، ما زالت تروّج لنموذج اقتصادي يقوم على سياسات التقشف، وتشجع على توسيع الدين العام، وخصخصة الخدمات العامة، مما يقوّض قدرة الدول النامية على تمويل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، ويجعلها رهينة للديون وشروط الدائنين ووكلائهم.
هذا التحول لا يعني فقط تقليص الموارد، بل يعني بالأساس تقويض الحق في التنمية، وحرمان دول الجنوب من السيادة على خياراتها الاقتصادية والاجتماعية، لصالح نموذج اقتصادي مفروض من الخارج لا يراعي الأولويات الوطنية ولا الحقوق الأساسية.
وفي مواجهة هذا الواقع، تتبلور اليوم ملامح تحالف عابر للجنوب العالمي، يضم دول مجموعة الـ77 وشبكات المجتمع المدني الحقوقية حول العالم، للمطالبة بإصلاح جذري في بنية النظام المالي الدولي. ويتركز هذا الجهد حول استعادة مبدأ "العدالة في تمويل التنمية"، من خلال الدفع باتجاه التصديق على الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة بشأن التعاون الضريبي الدولي، باعتبارها أداة رئيسة لمحاربة التهرب الضريبي واستعادة الموارد المنهوبة، إلى جانب المطالبة برفض السياسات التقشفية التي أثبتت فشلها في الحد من الفقر والبطالة، وإرساء قواعد جديدة لحوكمة الاقتصاد العالمي تقوم على الشفافية، الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان. كما يطالب هذا الحراك بوضع معايير واضحة وملزمة للتمويل المختلط، تمنع الخصخصة القسرية للخدمات العامة، وتكفل المساءلة، إضافة إلى الدعوة لإعادة هيكلة الديون السيادية، بل وشطب غير المشروع منها، تأسيساً على مبدأ المسؤوليات المشتركة، وضمان تمويل عادل ومستدام لقضايا التنمية والمناخ.
إن مؤتمر إشبيلية لا يجب أن يُختزل في تفاصيل تقنية حول آليات التمويل، بل يجب أن يُستثمر كفرصة تاريخية لإعادة طرح سؤال العدالة الاقتصادية الدولية، واستعادة صوت الجنوب العالمي في تحديد مستقبل التنمية وتمويلها. فنجاح هذا المؤتمر يتوقف على قدرة الدول النامية والمجتمع المدني العالمي على فرض أجندة بديلة تقوم على الحقوق لا على الشروط، وعلى الشراكة لا على التبعية، وعلى المساواة لا على الوصاية.
إن المساعدات ليست منّة من الدول الغنية، بل هي حقٌ مستحق، نابع من مسؤوليات تاريخية واستعمارية راكمت الثروات في الشمال على حساب الجنوب. وإذا كانت حقبة المنح قد أوشكت على نهايتها، فإن زمن الكرامة والعدالة يجب أن يبدأ، ولن يبدأ هذا الزمن إلا بجهد جماعي منظم، تقوده دول وشعوب الجنوب وأنصار العدالة الاقتصادية وحقوق الإنسان حول العالم.