الصنارة نيوز/ خاص- سامح محاريق
متى تأسست آخر شركة مساهمة عامة في الأردن؟ لم يعد الأمر يهم شخصًا يعمل في الاقتصاد لأن هذه المعلومة أصبحت من تخصص المؤرخين، ولكن ربما مرت عشرون سنة كاملة على آخر شركة تدرج في سوق عمان المالي. بطبيعة الحال، لا يمكن لأحد أن يعتبر إدراج شركة بورصة عمان في بورصة عمان بوصفه يعني أي شيء سوى إجراء تنظيمي بحت يتطلع إلى تحسين أداء البورصة من أجل القيام بدورها المأمول، وهو للأسف ما لم يحدث، ولا تظهر أمامه فرصة للتحقق في المدى القريب على الأقل طالما بقيت البورصة بعيدةً عن الأردنيين.
من أين نبدأ الحكاية؟
من الطبيعي أن تتواصل عمليات احتيال مالي واسعة مثل البورصات الوهمية في بلد يفتقر إلى بورصة يمكن أن توفر الخيار الأول والأفضل لصغار المستثمرين، ولهذا يتولد السؤال حول بقاء سوق عمان المالي مكانًا منعزلًا عن الأردنيين، حتى مع انتقاله إلى مبانٍ باذخة قرب واحد من أكثر مناطق العاصمة ازدحامًا، فهل البورصة مفتوحة فقط لطبقة معينة من الأردنيين؟ وهل يعني ذلك فشلًا في سياسات تحقيق الإدماج المالي بمعناها الاجتماعي والاقتصادي، بوصفها النقيض لفكرة الاستبعاد المالي؟ وهل على الأردني أن يبقى دائمًا بعيدًا في الظل تجاه المعلومات التي يُفترض أن يتحصل عليها لضمان الفرص المتساوية والعادلة؟
في ظل هذه الحالة يبدو أننا سنبقى نستمع دائمًا لقصة الشخص الذي تمكن من شراء أرض بقيمة متدنية لأنه كان يمتلك معلومة مؤكدة حول نوايا الحكومة أن تفتح طريقًا أو تؤسس لأحد المرافق بالقرب منها، ليعود لبيعها بأضعاف ثمنها، فيما يُعتبر واحدًا من أوجه الفساد الأكثر تعقيدًا في رصده وتتبعه. بطبيعة الحال، لا يحتمل الحديث أي تلميح حول كفاءة الإفصاحات ومنظومة الشفافية في سوق عمان المالي، ولكنه يستدعي سؤالًا حول مداها. فهي معلومات متوفرة للقلة وحدهم، وكل ما تفعله هو مركزة حركة الاستثمار المالي لدى مجموعة من المستثمرين، الذين يوجد بينهم مستثمرون كثيرون من غير الأردنيين.
وصفت الأردن طويلًا بأنها الدولة الريعية، مع أن أحدًا لا يمكن أن يقدم تصورًا علميًا لهذه التسمية التي تبدو أنيقة ولكنها غير حقيقية. فالأردن بلد سعى لأن يكون دولة رفاه اجتماعي حتى التسعينيات من القرن الماضي، وكان يمول ذلك من خلال وجود توجه عالمي لدعم نموذج دولة الرفاه بوصفه خط مواجهة متقدم مع النموذج الشيوعي، ولوجود الأردن على خط المواجهة مع كيان العدو، وهو ما كان يجعل دعمه يمثل مصلحة عربية مشتركة. ومع تراجع أهمية العاملين بصورة متزامنة في التسعينيات، وجد الأردن نفسه مطالبًا بأن يتحول إلى دولة إنتاج تعتمد على إمكانياتها القائمة وعلى مواردها البشرية لتحقيق تجربتها التنموية.
يكثر المسؤولون من استدعاء نموذج سنغافورة، ومع أنه ليس مناسبًا للسياق الأردني، إلا أنهم يتجاهلون بعضًا من معطياته المهمة وفي مقدمتها الدور الذي لعبته بورصة سنغافورة في تعزيز البنية التحتية للقطاع المالي، استطاعت لاحقًا استقطاب الاستثمارات التي وجدت ظروفًا مواتية مثل القوانين الطموحة والمرونة الكافية لاستيعاب متطلبات الاستثمار من خلال الأطر التنظيمية المواتية، من غير الإخلال بالشفافية والنزاهة.
يصدر منتدى الاستراتيجيات الأردني مؤخرًا تقريرًا غاية في الأهمية في تموز من العام الجاري بعنوان "دور الائتمان المصرفي وبورصة عمان في تعزيز النمو الاقتصادي وتحفيز الاستثمار". علم الاقتصاد لا يحتاج سوى الوقوف على شاطئه من غير غرور أو صلف ليدرك أي شخص أن الائتمان كان حجر الزاوية في زيادة إنتاجية المجتمعات تجاه تحقيق التنمية، وأن السوق المالي كان أداة مهمة في تمكين المجتمع من تحسين عملية توزيع المكتسبات الاقتصادية. اقتصاديون معاصرون من أصحاب الشعبية والكلمة المسموعة مثل يانيس فاروفاكيس، وزير المالية اليوناني في مواجهة تبعات الأزمة المالية العالمية، لا ينكرون هذه الحقائق، وخاصة ما يتعلق بالائتمان، وإن كانوا يدعون لمقاربات أخرى تتناسب مع العصر ومتطلباته وطبيعة الأزمات الراهنة.
لكن التقرير يكشف بوضوح عن الفجوة الكبيرة في الأردن، والتي يُعد سوق عمان المالي تحديدًا جزءًا من أسبابها وحلولها في الوقت نفسه. من خلال الرسوم البيانية الثرية التي شملها التقرير، نجد ذلك النمو الكبير في إجمالي موجودات البنوك المرخصة مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، لتصل في نهاية سنة 2023 إلى 191.6%، وهي نسبة تتجاوز بكثير المعدلات العالمية التي بلغت 71% بنهاية سنة 2021. فما الذي يجعل الأردن يصل إلى هذه المرحلة؟ وقبل الحديث عن تفسيرات مثل حجم الاقتصاد الصغير نسبيًا، النسبة تبقى مرتفعة وغير صحية، ولا يمكن تفسيرها كما هو الحال مع قطر، التي تعتمد على ثروات الغاز. فقطر هي الدولة الريعية، وليست الأردن.
من خلال اقتران بسيط بين ارتفاع نسبة الموجودات المصرفية إلى الناتج المحلي الإجمالي وأزمات البورصات الوهمية، نصل إلى نتيجة مفادها أن الأردنيين يحتاجون لاستثمار أموالهم بطريقة أو بأخرى، وأنهم غير معجبين بفكرة الأموال المجمدة في قطع أراضٍ أو مشغولات ذهبية. الأردنيون يريدون أصولًا تولد دخلًا مع الوقت، مع المحافظة على قيمة الاستثمار. لكن القصة لا تنتهي هنا، فالقيمة السوقية للبورصة تبدو وكأنها تسير إلى الماضي. بمقارنة القيمة السوقية للشركات المدرجة بالناتج المحلي الإجمالي، نجد أنها وصلت في نهاية 2023 إلى 48.8% بعد أن كانت 298.8% في نهاية سنة 2005، وهي نسبة قريبة مما كانت عليه في 1990!
لتوضيح الأمر أكثر، إذا كان القطاع المصرفي هو المنصة التي يجب لأي اقتصاد أن يقف عليها لتحقيق قفزة اقتصادية، فالبورصة أو السوق المالي هي عملية القفز نفسها. في الحالة الأولى، نجد أن الائتمان المصرفي لا يعبر عن سوق نشط كما يُفترض. الأموال موجودة في البنوك وليست في الأعمال المنتجة، ومن يدفع تكلفة الفوائد هي الدولة بشكل أو بآخر. أما العائد المتحقق من الاقتراض، بمعنى المشاركة بين المستثمر السلبي (المودع) والمستثمر الذي يعمل في السوق فعليًا، فهو عائد غير كافٍ لتحقيق التنمية.
في الحالة الثانية، الشركات تتآكل قيمتها. وهذا التآكل غير مرتبط في كثير من الأحيان بأدائها، فكيف يمكن تفسير تحولات سعر سهم البنك العربي، مع أن الأداء الكلي للشركة مبهر؟ وكيف تكون قيمة التداول في أسهم هذه الشركة في حدود 65 مليون دينار فقط، وهي الأعلى في السوق كله؟ مما يزيد الأمر تعقيدًا أن جزءًا كبيرًا من القيمة السوقية مملوك لغير أردنيين، وبالتالي فإن الأرباح المتحققة والمحتمل تحققها لن تكون في المدى البعيد جزءًا من رحلتنا مع التنمية الاقتصادية.
هنا نصل إلى السؤال الأهم: هل تدرك الحكومة أهمية استعادة دور سوق عمان المالي بوصفه جزءًا من الميدان الاقتصادي الحقيقي الذي يتطلب العمل الميداني الفعلي؟ وهل ترى الحكومة أن السوق المالي جزء أساسي من رؤيتها لتحقيق التنمية المستدامة؟ الدعم الموجه للبورصة ليس رفاهية؛ بل هو دعم يخدم جميع الأردنيين من خلال تهيئة البيئة المالية لدفع عجلة النمو. وفي المقابل، زيارة رئيس الحكومة لجمعية صغيرة في بلدة نائية قد تحقق أثرًا محدودًا ومؤقتًا على مجموعة صغيرة من الأشخاص لا تتجاوز عشرات أو مئات الأفراد.
لكن، التحدي الحقيقي يكمن في معالجة القضايا الكبرى التي تؤثر على شرائح أوسع من المجتمع، مثل السوق المالي. إذا كانت الحكومة ملتزمة بتحقيق الإدماج المالي والاجتماعي والاقتصادي لجميع الأردنيين، فهل يمكنها أن تركز على هذه الزيارات السريعة والتغطيات الإعلامية، بينما تتجاهل الميدان الأكبر الذي يشمل ملفات حيوية مثل السوق المالي؟
ما يحدث على أرض الواقع هو أن الحكومات المتعاقبة تنشغل بقصص النجاح السريعة والسهلة، تلك التي يمكن عرضها في الأخبار أو على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها تتجنب الاشتباك مع الملفات الكبيرة والمعقدة، والتي تحمل الأهمية الكبرى لتنمية الاقتصاد الوطني. سوق عمان المالي هو أحد هذه الملفات، وهو الساحة التي يجب أن تُخاض فيها المعركة إذا كانت الحكومة جادة في تحسين الوضع الاقتصادي وتحقيق التغيير المنشود