الدستور
في مقولة بل قناعة لدى كثيرين مثل «الرزق على الله»، وفي حالات كثيرة، تلمس صواب هذه المقولة، فبعض البسطاء والأميين، يتمتعون بسعة واضحة في الرزق، بينما بعض الأذكياء بل العباقرة، تمر بهم ظروف و «يشحدون الملح»، كناية عن شدة الفاقة والفقر والتعثر في الأعمال.. وأطلقت «للبشرية جمعاء» قاعدة تبين أن الرزق على الله، حيث كنت أقول لبعض ال»لقاقين»، لو كان الرزق يأتي بسبب العبقرية والعقل لما حاز فلان على قرش واحد في الدنيا، كناية عن أميته وجهله، لكنه ومن أقل القليل يصبح ثريا.. فسبحان الله مقسم الأرزاق.
لكن هل تصلح تلك القاعدة في التجسس؟ .. يعني هل من الممكن أن الجاهل، الذي يستخدم التكنولوجيا ولا يعرف عنها شيئا، هل يمكن أن ينجح في حماية معلوماته وبالتالي أمنه، أو يقدم إسهاما لأية جهة جادة في هذا المجال؟.. نعم، يمكنه أن يقدمها لأعدائه، بل يخدمهم لا سيما في حال «ركب راسه»، وناطحهم بقرون من طين.
اكتب ثانية، فقد كتبت قبل أكثر من 10 سنوات أكثر من مقالة عن التكنولوجيا، ودورها في خدمة «صانعها» والسيطرة على مستخدمها دونما معرفة بها، وفتح كل الآفاق أمام صانعها، إلى درجة شعوره بالتفوق على كل شيء وكل جهة تنافسه، ما دام يحفظ معلوماته وصناعاته بشكل جيد، ويقوم بجمع البيانات المختلفة عن كل شيء وبطريقة مستمرة، ويستخدم برمجيات و»سيرفرات كمبيوتر» سريعة وذات مساحات تخزين عالية، ثم يقوم ببرمجة نظام لإدارة هذه البيانات، وقدمت الصين مثلا خلال كورونا مثالا تجاريا أمنيا من خلال إنشاء ال»بيج داتا»، وأصبح كل شيء في المدن الكبيرة والطرقات، مرصودا بكاميرات تستعين بقواعد بيانات رسمية، وتتعرف على الوجوه التي تمر أمامها، وتعود لتلك السجلات الرسمية، لتقارن الوجوه التي تم التقاط صورها، بصور الناس في الملفات المحفوظة، ويجري التعرف على الشخص الذي عبر أمام الكاميرا، دونما توقيفه والطلب منه إبراز هويته، وفي الوقت نفسه، هناك برمجيات كثيرة يستخدمها الشخص في هاتفه الخلوي، تنشئ عنه قاعدة بيانات دونما طلب منه، فهو شخص معروف لدى هذه البرمجيات، اجتماعيا واقتصاديا وصحيا ونفسيا، وصوته له بصمة خاصة، وبصمة إصبعه وعينه معروفة، حتى ميوله الفنية والاستهلاكية والفكرية والسياسية معروفة، ومن هم أصدقاؤه وأقاربه وجيرانه، معروفون، ولديهم أيضا ملفات شبيهة في البرمجيات والتطبيقات المستخدمة.. وكل هذه المعلومات التي توفرها كل هذه التطبيقات يمكن مشاركتها بين التطبيقات والمؤسسات، ويمكن لكل جهة ذات اختصاص ما، أن تستخدم هذه المعلومات لتقديم خدماتها لهذا الشخص، فلو كان مريضا، فشركات الأدوية مثلا تعتبره زبونا، ولديها ملف عن وضعه الصحي، دونما أن يسبق له مراجعتها..
التفوق الجديد اليوم؛ متعلق بالذكاء الصناعي، وبقدرته على إدارة كل هذه المعلومات، وإنتاج خدمات جديدة، حسب رغبة الجهات المسؤولة عن برمجياته، وكل التكنولوجيا وأدواتها التي يستخدمها الأشخاص العاديون، يمكن أن تكون ملحقات وأدوات تحت سيطرة برمجيات الذكاء الصناعي، حيث يمكن لبرمجيات الذكاء الصناعي أن تسخر هاتفك لخدمة جهات عديدة دونما طلب ولا علم أو رغبة منك، وكذلك هو الأمر مع أي أداة تكنولوجية اليكترونية، حيث يكفي مثلا أن تتواجد في غرفة أو عمارة ولا تملك هاتفا خلويا ولا أي شيء اليكتروني ولا غيره، بينما يوجد جهاز هاتف خلوي في جيب احدهم متواجد في المكان، ليصبح هذا الهاتف ماسحا صوتيا وغيره من أنواع الماسحات، ليتم التعرف على كل الأشخاص المتواجدين على مسافات ما من هذا الهاتف الخلوي الموضوع في جيب مراجع أو ضيف أو مقيم في المكان، وبرمجيات الذكاء الصناعي تتكفل بباقي الأمر، لو كنت شخصا مطلوبا أو مريضا أو زبونا مقترحا لسلعة ما.
لا مجال للتفكير والتحدث عن الروبوتات الدقيقة وتكنولوجيا «النانو»، ولا يمكنني أن أؤكد إلا شيئا واحدا: ما دام الجهل موجودا، فالمرض والفقر يرافقانه، والضعف أيضا، فهذه هي المتطلبات الضرورية للعبودية الحديثة التي تديرها الآلات، والتجار الجشعون والإرهابيون خلف الشاشات.