الجريمة الرقمية.. تتحول إلى اشتراك شهري (2-1)
الغد-د. حمزة العكاليك
في عالم يتحرك بسرعة الضوء نحو الرقمنة، تتطور أساليب الجريمة بالسرعة نفسها. فلم تعد الجريمة السيبرانية فعلا فرديا يعتمد على قرصان يجلس خلف شاشة مظلمة، بل أصبحت صناعة منظمة تدار بعقلية شركات متكاملة الخدمات، تعرف اليوم باسم الجريمة كخدمة (Crime-as-a-Service). هذا التحول الخطير يعني أن أي شخص، حتى من دون مهارات تقنية، يمكنه شراء البنية التحتية اللازمة لتنفيذ جريمة إلكترونية كما يشتري خدمة عبر الإنترنت. ومن بين أخطر مظاهر هذا النموذج الجديد تبرز مزارع الشرائح، أو ما يعرف بشبكات SIM Farms، التي أصبحت المحرك الخفي للعديد من الجرائم العابرة للحدود.
خطر مزارع الشرائح لا يكمن في التكنولوجيا بحد ذاتها، بل فيما تمثله من تهديد مباشر لهوية الإنسان الرقمية. رقم الهاتف الخلوي الذي نعتبره مجرد وسيلة للتواصل، أصبح اليوم بوابة الدخول إلى حساباتنا البنكية، وهوياتنا الإلكترونية، وخدماتنا الرقمية كافة، فهو يستخدم لتفعيل المصادقة الثنائية وتأكيد العمليات المالية. وعندما تقع هذه البوابة في أيدي المجرمين، يتحول رقم الهاتف إلى مفتاح ذهبي يمكن من خلاله اختراق حياة كاملة.
ومما يجعل هذه الشبكات مرعبة قدرتها على تمويه الهويات والتلاعب بالجغرافيا والقانون، فهي توفر أرقاما حقيقية من دول مختلفة، لكن مستخدميها المجرمين قد يكونون في مكان آخر تماما. وتتيح هذه الخدمة لهم إنشاء حسابات وهمية، أو تفعيل حسابات مالية مشبوهة، أو إرسال رسائل تصيد ضخمة من دون أن يكشف موقعهم أو هويتهم الحقيقية. وقد أظهرت عملية "SIMCARTEL" الأوروبية التي أعلنتها وكالة "Europol" مدى خطورة هذه الشبكات، إذ كشفت عن تمكين إنشاء ما يزيد على 49 مليون حساب زائف باستخدام شرائح من أكثر من 80 دولة، وتمويل عملياتها بالأصول الرقمية المشفرة.
وأيضا، أظهرت عملية أميركية مماثلة في نيويورك الوجه الآخر لهذا التهديد. فقد ضبطت السلطات شبكة قادرة على إرسال ثلاثين مليون رسالة نصية في الدقيقة، عبر بنية تحتية هائلة تضم أكثر من مائة ألف شريحة و300 خادم. هذا الرقم لا يرمز فقط إلى احتيال مالي واسع النطاق، بل إلى خطر أمني استراتيجي، إذ حذرت الوكالات الأميركية من أن هذه القدرة يمكن أن تستخدم لتعطيل شبكات الاتصالات وربما التأثير على خدمات الطوارئ. ومن هنا، لم تعد مزارع الشرائح مجرد أداة للاحتيال، بل تهديدا للأمن الوطني والبنى التحتية الحيوية.
وتقوم فكرة مزارع الشرائح على أجهزة بسيطة تعرف باسم SIM-Box، وهي صناديق صغيرة تحتوي على مئات الشرائح المرتبطة عبر الإنترنت ويتم التحكم بها عن بعد؛ حيث يمكن للمجرمين استئجار هذه الشرائح عبر واجهات برمجية أو مواقع إلكترونية متخصصة مقابل مبالغ مالية زهيدة. وتتمثل القيمة الحقيقية لهذه الشبكات في قدرتها على توفير إخفاء هوية قوي. فالمجرم الذي يستخدم رقما من دولة أجنبية يخفي موقعه الفعلي، مما يجعل تقنيات التتبع التقليدية القائمة على عناوين IP عديمة الجدوى. وهكذا تتحول المشكلة إلى عبء قانوني على الدولة التي سجلت فيها الشريحة أصلا، نتيجة ضعف أنظمة "اعرف عميلك" (KYC).
إن نموذج الجريمة كخدمة يعيد تعريف دور المجرم بالكامل. فبدلا من تنفيذ الجريمة، أصبح بإمكانه ببساطة استئجار البنية التحتية التي تمكنه منها. وهنا يكمن التحول الأخطر: من الاختراق المباشر إلى التمكين الإجرامي. هذه الخدمات لا تسرق الأموال بشكل مباشر، لكنها تمكن غيرها من فعل ذلك. وبهذا أصبحت مزارع الشرائح مصانع لهويات رقمية زائفة، تزود السوق السوداء بالملايين من الحسابات المزيفة الجاهزة لأي عملية احتيال أو تمويل مشبوه.
فالأرقام المسجلة من أوروبا وحدها تكشف حجم الكارثة، فقد تجاوزت الخسائر المالية الموثقة ملايين اليوروهات في قضايا محدودة شملت النمسا ولاتفيا فقط. كما جُمدت مئات آلاف الدولارات في حسابات بنكية وعملات رقمية، وتمت مصادرة أصول مادية كسيارات فارهة وأجهزة خوادم. أما على المستوى العالمي، فلا شك أن الأرقام أكبر بكثير، خصوصا أن أغلب الضحايا لا يبلغون عن الجرائم التي تقع ضمن هذا النمط المعقد من الاحتيال الرقمي.
ولا يقتصر التهديد على السرقة المالية، بل يمتد إلى تهديد الثقة العامة في التحول الرقمي. فعندما تتعرض هوية رقمية واحدة للاختراق، لا يفقد الضحية ماله فقط، بل يفقد إحساسه بالأمان في التعامل عبر القنوات الرقمية. ومع الوقت، تضعف ثقة المجتمع في الخدمات المصرفية الرقمية والمحافظ الإلكترونية، وهو ما يشكل خطرا على أهداف الشمول المالي التي تعمل عليها الحكومات، بما فيها الأردن.
ولعل أكثر ما يثير القلق أن هذه الشبكات لا تعمل بمعزل عن غيرها، بل ترتبط بمنظومة إجرامية عالمية تشمل الاحتيال الاستثماري الوهمي، وتبييض الأموال، وجرائم الاستغلال الإلكتروني. فالأرقام المزيفة التي تنتجها مزارع الشرائح تستخدم لتشغيل منصات تداول وهمية تبدو قانونية، تغري المستثمرين بإعلانات واقعية وأرقام موثوقة، قبل أن تختفي بعد سرقة أموالهم. ويعتقد أن هذه الشبكات تمول كذلك أنشطة أكثر خطورة، مثل تهريب المهاجرين أو توزيع المحتوى غير القانوني، ما يجعلها جزءا من الجريمة المنظمة العابرة للحدود بكل معنى الكلمة.
هذه الحقائق تجعل من الضروري أن تنظر الدول، خصوصا تلك التي تمر بمراحل متقدمة من التحول الرقمي مثل الأردن، إلى التهديد، بمنظار أمني شامل. فالمسألة لم تعد مجرد احتيال إلكتروني، بل تهديد لسيادة الهوية الرقمية الوطنية وللنظام المالي ككل. في الجزء الثاني من هذه السلسلة، سنناقش كيف تكشف هذه الظاهرة عن ثغرات في الأطر التشريعية والتنظيمية في المنطقة، ولماذا أصبح من الضروري تجريم البنية التحتية الإجرامية بوضوح، مع بناء نموذج تعاون وطني يعزز التكامل بين الأمن السيبراني والقطاعين المالي والاتصالاتي، لحماية الهوية الرقمية الأردنية من أن تتحول إلى سلاح ضد أصحابها.