الراي
لم يعد حضور المشاهير في مواقع التواصل مجرد ترفٍ رقمي أو محاولة لملء الفراغ، بل أصبح جزءاً أصيلاً من حركة المجتمع، ومساحة خصبة لبناء ما يُسمّى بـ«رأس المال الاجتماعي»، القائم على الثقة والاحترام والتأثير، حيث أن هذه الثقة، مهما بدا اكتسابها سهلاً، تظل أثمن ما يملكه أي صانع محتوى، وأسرع ما قد يفقده إن لم يحسن استخدامها.
ومع تضخم جمهور المنصّات، تحولت حسابات المشاهير إلى ساحات مفتوحة للتسويق التجاري، إذ باتت الشركات تسعى، والمنتجات تتزاحم، والمكاسب تتضاعف؛ وفي خضم هذا الاندفاع، برزت ظاهرة إعلانات المؤثرين التي أصبحت جزءاً من يومياتنا الرقمية، إلى درجة أن المستخدم لم يعد يميّز بسهولة بين الرأي الحقيقي والإعلان المدفوع.
الظاهرة ليست كلها سلبية، فالتسويق عبر المؤثرين قناة مهمة وفاعلة، لكن المشكلة تبدأ حين يصبح الربح هو البوصلة الوحيدة، ويُترك الضمير خارج المشهد. هنا يبدأ الخلل، ويبدأ معه تضليل المستهلك واستغلال ثقته.
فمن أكثر الإعلانات انتشاراً اليوم إعلانات المطاعم، وهي ـ بلا مبالغة ـ الأكثر خداعاً، "وجبات تلمع، وأطباق تتراقص، و«قرمشة» مصطنعة تُسجَّل في استوديوهات صغيرة خلف الكواليس"، والمؤثر يغمض عينيه ويتنهد من شدة اللذة، ثم يطلق حكماً مطلقاً بأن هذا المطعم «الأفضل على الإطلاق».
ولكن المستهلك، الذي يذهب متحمساً، يكتشف أن كل ما شاهده لم يكن سوى استعراض بصري مُتقن، لا علاقة له بالنكهة ولا بالجودة ولا حتى بالخدمة، فالوجبة مختلفة، والطعم أقل، والمبلغ أعلى… وما بين المشهد والإحساس فجوة لا يردمها إلا خيبة أمل جديدة.
وهذه ليست مبالغة، بل واقع صنعه تسويق بلا مسؤولية، وإعلانات تحفظ للأطباق بريقاً لا يمت للواقع بصلة، والغريب أن الخاسر الحقيقي ليس المستهلك وحده، بل المؤثر الذي يروّج لمطعم رديء أو منتج مغشوش يخسر رأس ماله الحقيقي: السمعة والثقة، حيث أن ثقة الناس لا تُشترى، ولا يمكن استعارتها من إعلان… إنها تُبنى بالصدق فقط، وتسقط بكذبة واحدة.
وهنا على المؤثرين أن يدركوا أن الإعلان شهادة، وأن الرأي المدفوع يجب ألا يتقمّص دور الحقيقة، وأن التحقق من جودة المنتج، واحترام وعي المتابعين، والتمييز بين المحتوى الأصلي والإعلان المدفوع—كلها ليست التزامات قانونية فقط، بل أخلاقية أيضاً.
ووسط ضجيج الإعلانات وبريق العروض والخصومات، سيبقى المستقبل لمن يحافظ على مصداقيته، ويضع معايير واضحة لاختيار ما يروج له، ويضع احترام الجمهور فوق أي مكسب مالي، فالنجومية الحقيقية ليست في عدد المتابعين… بل في صدق الكلمة، وأمانة التأثير، وقدرة الشخص على أن يكون قدوة في عالم يزداد ازدحاماً بالخداع البصري.