من الإخطارات إلى غرفة عمليات: الدور الحاسم لـFIU لـوحدة الاستخبارات المالية (2-2)
الغد-د. حمزة العكاليك
بعد أن رأينا بأم أعيننا كيف تحولت الألعاب إلى غطاء لغسيل أكثر من 18 مليون دولار سنوياً كمثال صغير قياساً بحجم الأموال التي يتم غسيلها بالواقع، البنوك بمفردها لا تستطيع الفوز بهذه الحرب. ولهذا، أصبح التحول إلى وحدة الاستخبارات المالية (FIU) ليس مجرد خطوة تنظيمية، بل هو قرار مصيري بإنشاء غرفة عمليات مركزية جديدة للحفاظ على كياننا المالي. هذه الوحدة هي التي ستقود المعركة باستخدام أحدث التقنيات: من تحليل سلاسل الكتل (Blockchain Analytics) الذي يمزق ستار التخفي عن المحافظ المشفرة، إلى الذكاء الاصطناعي الذي يحلل مليارات البيانات ليكشف هوية الجناة. فالقيادة الرؤيوية المتخصصة المقرونة بالذكاء التكنولوجي المتفوق، تمكننا من الحفاظ على سيادتنا المالية ومنع الانهيار الهيكلي.
فرغم القوة التي تمنحنا إياها أنظمة تحليل سلاسل الكتل في تعقب الأموال المهربة عبر البلوكشين، إلا أن الجريمة الرقمية لا تقتصر على العملات المشفرة. ولهذا، فإن مواجهة الطوفان المالي تتطلب عموداً فقرياً أكثر شمولية وقدرة على تحليل البيانات الضخمة (Big Data). وهنا يبرز الدور الحاسم للذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، اللذين يشكلان أساس استراتيجيتنا للكشف عن الأنماط الشاذة التي لا يمكن للعين البشرية رصدها؛ حيث تقوم هذه الأنظمة بتحليل كميات هائلة من البيانات المالية (Big Data) للكشف عن الأنماط الشاذة (Anomalies). فمن خلال خوارزميات معقدة، نستطيع رصد السلوكيات المريبة، مثل التدفقات النقدية المفاجئة في حسابات خاملة، أو التكرار المشبوه للمعاملات الصغيرة في ألعاب الفيديو.
وكذلك، يمكن الاعتماد بشكل كبير على تقنيات تحليل الشبكات الاجتماعية (Social Network Analysis) التي ترسم خرائط علاقات دقيقة تربط بين الحسابات البنكية، وعناوين الـIP، وسجلات الألعاب، مما يساعدنا على تفكيك الهيكل التنظيمي للعصابات الإجرامية بدقة جراحية، مدعومين بأدوات الاستخبارات مفتوحة المصدر (OSINT) التي تمسح الشبكة المظلمة بحثاً عن البيانات المسروقة.
إن القدرة على تحليل كميات هائلة من البيانات، ورسم خرائط علاقات دقيقة للعصابات الإجرامية باستخدام الذكاء الاصطناعي، تظلان من الأدوات الخام ما لم يتم توظيفها ضمن إطار مؤسسي فعال. وهنا، يبرز الدور المحوري والحاسم لوحدة الاستخبارات المالية (FIU)، التي لم تعد مجرد مركز لتلقي الإخطارات، بل أصبحت غرفة العمليات المركزية التي تقود المنظومة الوطنية بأكملها ضد خطر لا يرحم. فالحديث عن هذه الوحدة المتخصصة ليس ترفاً تقنياً، بل سيساعد على الحفاظ على مكانة الأردن بعيداً عن المنطقة الرمادية أو القوائم السوداء الصادرة عن مجموعة العمل المالي (FATF). والمستثمرون الأجانب ينظرون إلى تصنيفات FATF بالقدر نفسه الذي ينظرون فيه إلى الفرص الاستثمارية؛ فالدولة التي تفشل في ضبط فضائها الرقمي المالي تعد بيئة عالية المخاطر، مما يرفع تكلفة الاقتراض ويطرد الاستثمارات النوعية.
إن المعركة الحقيقية لتجنب القائمة الرمادية لا تكمن فقط في سن القوانين -فالأردن يمتلك بالفعل تشريعات قوية- بل تكمن فيما تسميه FATF بالفعالية (Effectiveness). وهنا يأتي دور الوحدة المتخصصة المقترحة؛ فمقيمو FATF، لا يسألون فقط هل لديكم قانون يجرم غسيل الأموال الرقمي؟ بل سيسألون: كم عملية غسيل أموال عبر الكريبتو قمتم برصدها؟ وكم أصلا رقميا قمتم بتجميده؟
ومن منظور استراتيجي أعمق، فإن الدور الاستباقي لهذه الوحدة هو ما يضمن الامتثال التقني للتوصية رقم 15 الصادرة عن FATF والمتعلقة بالأصول الافتراضية. وهذه الوحدة ستكون العقل الذي يدير التقييم الوطني للمخاطر (National Risk Assessment) بشكل دوري وديناميكي، راصداً كيف تتطور أساليب غسيل الأموال عبر ألعاب الفيديو ومنصات التمويل اللامركزي، ومن ثم توجيه البنوك والمؤسسات المالية لتحديث دفاعاتها.
إن الدور الاستباقي لهذه الوحدة في إدارة التقييم الوطني للمخاطر (NRA) وضمان الامتثال التقني يمثل جهاز مناعة متطوراً يتكيف مع الفيروسات المالية الجديدة. لكن بما أن الجريمة الرقمية عابرة للحدود بامتياز، فإن هذه الحوكمة الداخلية يجب أن تتكامل مع رؤية دولية. فوحدة الاستخبارات المالية المتخصصة رقمياً ستكون الجسر الذي يربط الأردن بشبكة إيجمونت (Egmont Group)، لوحدات الاستخبارات المالية العالمية بفاعلية أكبر. فالجريمة الرقمية عابرة للحدود بامتياز، وملاحقة الأموال المهربة عبر البلوكشين تتطلب تعاوناً دولياً لحظياً. ووجود وحدة تتحدث لغة التكنولوجيا سيعزز ثقة النظراء الدوليين في النظام المالي الأردني، ويسهل عمليات تبادل المعلومات الحساسة واسترداد الأموال المنهوبة.
إن الدور المحوري لوحدة الاستخبارات المالية (FIU) ليس مجرد امتثال قانوني، بل هو بوليصة التأمين المثلى للأمن الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين.. وفي الختام، فإن الأردن، بما يملكه من كفاءات بشرية وموقع استراتيجي، مؤهل لأن يكون نموذجاً إقليمياً رائداً في الحوكمة المالية الرقمية، شريطة أن يتحلى بالإرادة الاستباقية، فالأمن الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين يُصنع بالذكاء، والبيانات، والإرادة الاستباقية، فغياب حوكمة البيانات الصارمة والتباطؤ في تبني حلول الذكاء الاصطناعي في الرقابة المالية يعنيان ببساطة ترك الأبواب مشرعة أمام المجرمين.