الغد-مروة بنت سلمان آل صلاح
في زمن تتسارع فيه التحولات الرقمية وتعاد فيه صياغة مفهوم القيمة والفرصة، لم يعد الشمول المالي مجرد مؤشر اقتصادي تقيسه التقارير السنوية، بل أصبح مرآة لعدالة المجتمعات وقدرتها على بناء اقتصاد إنساني قائم على الإنصاف والمعرفة. لم تعد العدالة اليوم تمارس فقط عبر القوانين، بل عبر الخوارزميات التي تنظم تدفق المال وتعيد تعريف الفرص. هنا، يقف الذكاء الاصطناعي كأكثر الأدوات تأثيرا في صياغة هذا التحول، ليس كرفاهية تقنية، بل كمسؤولية وطنية لبناء نموذج مالي ينصف الإنسان قبل الأرقام.
العالم يشهد تحولا عميقا في بنيته المالية. وفق تقارير البنك الدولي للعام 2024، ارتفعت نسبة الأفراد الذين يمتلكون حسابات مالية رقمية إلى أكثر من % 76 عالميا، بعد أن كانت % 62 فقط قبل عقد من الزمن. هذه القفزة لا تعبر عن توسع في الخدمات المصرفية بقدر ما تعبر عن وعي جديد بمفهوم الوصول والتمكين. فالشمول المالي لم يعد مسألة فتح حساب مصرفي، بل مسألة فتح أفق جديد في العدالة الاقتصادية.
في قلب هذا التحول، يقف الذكاء الاصطناعي بوصفه "العقل المنظم" للنظام المالي الجديد. فبحسب تقديرات مؤسسة PwC، يتوقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي بما يقارب 15.7 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول العام 2030، منها أكثر من 1.2 تريليون في الأنشطة المالية والخدمية. هذه الأرقام لا تظهر فقط حجم السوق، بل تكشف عن تحول جوهري في طبيعة القرار المالي ذاته، حيث باتت الخوارزميات تتعلم من السلوك البشري لتصوغ نماذج تمويل أكثر عدالة وكفاءة، وتعيد تقييم المخاطر بناء على معايير تتجاوز الأرقام الجامدة نحو فهم أعمق للقدرات البشرية.
لكن جوهر القضية ليس في التقنية ذاتها، بل في كيف تستخدم التقنية لخدمة الإنسان. فالمجتمعات التي أدركت مبكرا هذا البعد الإنساني للذكاء الاصطناعي بدأت تبني منظومات مالية رقمية تراعي العدالة الاجتماعية وتقلص الفجوات بين الفئات. وتشير دراسات الأمم المتحدة إلى أن كل زيادة بنسبة 10 % في الشمول المالي تسهم في خفض معدلات الفقر بنسبة تتراوح بين 2 % و3 %، وهو رقم صغير في ظاهره، لكنه في مضمونه يعني ملايين البشر الذين يحصلون على فرصة ثانية للكرامة الاقتصادية.
في العالم العربي، تتبلور تجارب رائدة في هذا المسار، يأتي في مقدمتها الأردن كنموذج وطني متوازن يجمع بين الرؤية والسياسات التنفيذية. فقد ارتفعت نسبة الوصول إلى الخدمات المالية في المملكة من 33 % العام 2017 إلى 50 % العام 2023، بفضل سياسات التحول الرقمي ومبادرات البنك المركزي في تمكين المرأة والشباب والشركات الصغيرة من دخول الاقتصاد الرسمي. هذه النسب ليست مجرد نجاح اقتصادي، بل دليل على نضج وطني في إدارة التحول المالي بوعي إنساني، إذ يرتبط كل تطور رقمي بغايات اجتماعية واضحة: تمكين الأفراد، وتوسيع فرص المشاركة، وبناء اقتصاد معرفي قائم على الثقة.
الذكاء الاصطناعي يتيح اليوم فرصا غير مسبوقة لإعادة تصميم النظام المالي ليكون أكثر عدالة وشفافية. فبفضله يمكن تحليل أنماط الإنفاق، وابتكار أدوات تمويل مخصصة لرواد الأعمال والمشاريع الصغيرة، وتقديم تسهيلات ذكية تعتمد على البيانات الفعلية لا على التقديرات التقليدية. وفي الوقت ذاته، يرفع الذكاء الاصطناعي من كفاءة مؤسسات الدولة في الرقابة على الأنظمة المالية ومكافحة الفساد وتعزيز الشفافية، ما يجعل الاقتصاد الرقمي أكثر أمانا واستدامة.
ومع ذلك، فإن التحدي الحقيقي لا يكمن في "إتقان التقنية"، بل في "توجيهها أخلاقيا". فكما تستطيع الخوارزميات أن تفتح الأبواب، يمكنها أن تغلقها أيضا إن أُسيء استخدامها. لذلك، فإن بناء تشريعات وطنية رشيدة توازن بين الابتكار والعدالة بات ضرورة سيادية. الشمول المالي الذكي لا يعني فقط إدماج الفئات المهمشة، بل يعني أيضا حماية الجميع من تحيز الخوارزميات وضمان أن يظل الإنسان هو المركز لا الأداة.
هنا تتجلى مسؤولية الدولة الحديثة، التي لا تكتفي بتمكين المواطن من الوصول إلى الخدمات المالية، بل تمكنه من فهمها وإدارتها. العدالة المالية ليست في المساواة المطلقة، بل في خلق بيئة تقدر التنوع في القدرات والفرص. الذكاء الاصطناعي قادر على تحويل هذا الفهم إلى واقع، حين يستخدم لرصد الاحتياجات الاجتماعية، وتخصيص البرامج التمويلية بدقة، وتحليل أثر كل سياسات مالية على جودة الحياة.
إن ما يميز الدول المتقدمة اليوم ليس حجم اقتصادها الرقمي فحسب، بل قدرتها على جعل التقنية أداة لتحقيق القيم. وهنا يظهر الفرق بين التحول الرقمي كـ"خدمة" والتحول المالي الذكي كـ"رسالة". فالأول يواكب العالم، أما الثاني فيصنعه. من هنا، يصبح الاستثمار في الذكاء الاصطناعي استثمارا في العدالة، لا في البرمجة فقط.
تظهر التجارب الدولية أن الدول التي دمجت الذكاء الاصطناعي في سياساتها المالية شهدت تحسنا في الكفاءة التشغيلية بنسبة تجاوزت 20 %، وانخفاضا في تكاليف المعاملات بما يقارب 30 %، وهو ما يعيد توزيع الموارد بشكل أكثر إنصافا. هذه الأرقام تثبت أن التحول المالي الذكي ليس خيارا اقتصاديا فحسب، بل أداة لإعادة التوازن الاجتماعي.
وفي نهاية المطاف، يبقى المعيار الأهم هو "الأثر". فالقيمة الحقيقية للشمول المالي لا تقاس بعدد الحسابات المفتوحة أو التطبيقات المستخدمة، بل بعدد الحيوات التي تغيرت نحو الأفضل بفضلها. حين تصبح الخوارزمية قادرة على فهم الإنسان، لا فقط على حسابه، نكون قد بلغنا جوهر الذكاء الحقيقي.
إن بناء وطن ذكي لا يتحقق بتسريع التقنية فقط، بل بتوجيهها نحو الإنسان، نحو العدالة التي تمارس لا التي تعلن، ونحو اقتصاد رقمي يحفظ الكرامة قبل الأرقام. لأن الذكاء الحقيقي ليس في دقة التنبؤات، بل في نزاهة النوايا، والوطن الذكي هو الذي يضع الإنسان في قلب كل معادلة اقتصادية رقمية.
الشمول المالي الذكي ليس مشروعا مؤسسيا فقط، بل رسالة وطنية تثبت أن الدولة تستطيع تحويل المعرفة والتقنية إلى قوة إنسانية حقيقية، حيث يصبح كل مواطن شريكا في صنع القرار الاقتصادي، وكل خوارزمية أداة لتعزيز العدالة، وهكذا يصاغ مستقبل مستدام يليق بوطن يدرك أن الإنسان هو الثروة الحقيقية.