أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    28-Jul-2025

"من الظل إلى الشيفرة": المرأة تبني في عمق النظام وتعيد برمجة العالم

  الغد

د. مروة بنت سلمان آل صلاح
 
 في عالم يعيد كتابة الشيفرة، هناك صوت لم يسمع بعد.. هو صوت المرأة، القوة الاقتصادية الصامتة التي تكمن إمكاناتها الهائلة تحت السطح. ليست هذه الصفة تقليلا من شأنها، بل وصف دقيق لقوة كامنة لم تستثمر بعد بالشكل الذي يليق بقدراتها. فالعالم الرقمي، الذي يشهد تسارعا غير مسبوق في التحول نحو الذكاء الاصطناعي، والاقتصاد التجريبي، والعوالم الافتراضية، لم يعد يتطلب فقط مهارات تقنية، بل يحتاج إلى إعادة تعريف للأدوار، وإعادة توجيه للفرص، وإعادة تشكيل للهياكل التقليدية التي طالما حجّمت دور المرأة أو قيّدته في قوالب نمطية.
 
 
التمكين لم يعد شعارات أو برامج تدريبية قصيرة المدى، بل بات مرتبطا بمدى قدرة النساء على الدخول الفعلي في صلب صناعة المستقبل. نحن لا نتحدث عن توظيف المرأة في الشركات التقنية وحسب، بل عن تمكينها لتكون جزءاً من التصميم، من البرمجة، من القرار، من رسم السياسات الرقمية. تمكينها من التأثير لا من التكيف، من التحكم لا من الاستهلاك.
المرأة لم تعد على هامش السوق، بل هي السوق الذي لم يستوعب بعد. ولعل من أكبر المفارقات أن القطاعات التي تستهدف النساء في الاستهلاك، لم تفسح لهن المجال الكافي في الإنتاج أو التخطيط أو الابتكار.
ورغم النجاحات الملحوظة لبعض النساء حول العالم، ما تزال الفجوة قائمة بين الإمكانات الفعلية المتوفرة وبين ما يتاح لهن من أدوار. التحديات لم تعد محصورة في العوائق الاجتماعية أو الثقافية فحسب، بل أصبحت تكنولوجية الطابع؛ تتعلق بالوصول إلى البيانات، بالملكية الفكرية، بالتحكم بالخوارزميات التي تشكل وعينا وقراراتنا الاقتصادية كل يوم. وهذا يضع المرأة أمام تحد مضاعف: ليس فقط إثبات الذات، بل فهم النظام وإعادة هندسته من الداخل.
اليوم، لم يعد السؤال: "كيف نُمكن المرأة؟"، بل: "كيف نعيد هيكلة المنظومة الاقتصادية والتقنية لتكون المرأة جزءا عضويا منها منذ اللحظة الأولى؟".
فالتحول الرقمي ليس حياديا، والخوارزميات لا تخلو من تحيز. وهنا بالضبط يأتي دور النساء الرائدات في اختراق هذا النظام لا لمجرد المشاركة، بل لتغييره من الداخل. تغيير يبدأ من اللغة، من إعادة تعريف ما تعنيه "القيادة"، "الابتكار"، و"القيمة". فالعقول النسائية ليست فقط مبدعة في النتائج، بل دقيقة في صياغة الأسئلة، وفي تفكيك البنى المعرفية التي حكمت الاقتصاد لقرون.
في بيئات عمل ذكية، ومختبرات مدن رقمية، ومنصات تشاركية مبتكرة، تطل المرأة كعقل استراتيجي لا كعنصر ثانوي. في هذه البيئات، لم تعد النساء تنتظر دعوات المشاركة، بل تصنع أدواتها، تبتكر نماذج أعمال جديدة، تبرمج الحلول، وتبني شبكات تأثير تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية.
إن إحدى الفرص غير المستغلة في اقتصاداتنا العربية، تكمن في هذا المورد غير المرئي: النساء المبدعات اللواتي لم يحصلن بعد على البيئة الرقمية التي تليق بإمكاناتهن. كم من فكرة طمرت بسبب غياب الدعم التكنولوجي؟ وكم من مشروع تعثر لأنه لم يجد طريقا نحو منصات العرض العالمية؟ نحن هنا لا نتحدث فقط عن تمكين فردي، بل عن إصلاح هيكلي يتعامل مع المرأة كمصدر ثروة مستدامة.
وهنا تتجلى المفارقة الكبرى: في الوقت الذي يسعى فيه العالم لبناء مدن ذكية، ما يزال يفتقر إلى عدالة ذكية في تمكين المرأة. والمقصود بعدالة ذكية، ليس فقط إزالة الحواجز التقليدية، بل خلق أدوات جديدة لقياس النجاح والجدارة، لا تستند فقط إلى الأداء الاقتصادي، بل إلى الأثر الاجتماعي والابتكار القيمي.
الفرصة القادمة ليست فقط في ربط النساء بالإنترنت، بل بربطهن بمنصات اتخاذ القرار.
وليست فقط في تعليمهن البرمجة، بل في إشراكهن في صناعة السياسات التقنية، وخلق مساحات للتعبير الذكي عن أفكارهن بلغة المستقبل: الذكاء الاصطناعي، والبلوك تشين، والميتافيرس، والاقتصاد الرقمي.
لقد أثبتت تجاربي الدولية أن التمكين لا يتحقق بمكان، بل بقرار. في ورش العمل، في مشاريع المدن الذكية، وفي المؤتمرات العالمية التي شاركت بها، كنت أرى المرأة دائما: حاضرة في العزم، غائبة عن المنصة.
 وآن الأوان أن تتطابق الصورتان. فحين تتمكن المرأة من الدخول إلى قلب الاقتصاد الرقمي كصانعة لا كمستهلكة، تتحول المعادلة من "التمكين من الخارج" إلى "التحول من الداخل". حينها فقط، نصنع اقتصادا لا يقاس بحجم البيانات فقط، بل بعمق العدالة التي يحملها، وعدد الفرص التي يعيد توزيعها، ونوع الأصوات التي يتيح لها القيادة.
نحن لا نبحث عن تمثيل رمزي في عالم الذكاء الاصطناعي، بل عن مكان مستحق في هندسة المستقبل. ولا نطلب تغييرا مؤقتا في السياسات، بل إعادة تعريف لطريقة توزيع الموارد، والتعليم، والفرص، بحيث تصبح المرأة شريكا أصيلا في المعادلة الرقمية، لا مجرد متلق لنتائجها.
التحول الاقتصادي الذكي يحتاج إلى رؤية تدرك أن المرأة ليست فئة خاصة بحاجة للدعم، بل شريك متكافئ يحمل مفاتيح ابتكار لا يمكن تجاهلها بعد الآن. وهذا التغيير يبدأ من وعي جديد، من إرادة جريئة، ومن لغة تعيد صياغة التمكين لا كشعار، بل كمنهج، وكقيمة مضافة تثري التجربة البشرية في أرقى صورها.
وفي الختام، المرأة ليست بحاجة إلى من يمنحها القوة، بل إلى من يوقن أنها كانت دائما تمتلكها. وفي زحمة التحول الرقمي، حيث تعاد هيكلة الاقتصاد والوعي والسرديات الكبرى، تظهر المرأة كصوت خافت لكنه حاسم؛ كقوة صامتة لكنها تعيد تشكيل الخريطة.
ليست مجرد فاعلة في السوق، بل مهندسة لمسارات جديدة، تبرمج الحلم، وتحول الإلهام إلى أنظمة، والمعاناة إلى نماذج أعمال مبتكرة.
ففي المعادلة الذكية المتوازنة، لا تقوم المرأة بدور منفصل عن الرجل، بل بدور مكمل، داعم، وشريك لا يتنافس بندية غير عادلة، بل يتكامل معه برؤية إنسانية سامية تحفظ التوازن، وتحترم الفروقات، وتثري النتيجة النهائية. فكما لا يكتمل اللحن من دون نغمتين، لا يكتمل التحول من دون هذا الانسجام العميق بين الطاقات البشرية جميعها.
لقد آن لهذا الصوت ألا يسمع فقط، بل أن يصغى إليه في مراكز القرار، في تصميم السياسات، وفي برمجة المستقبل. نحن لا نطالب بحصة، بل نقدم نموذجا؛ ولا نبحث عن دور، بل نعيد تعريف الأدوار. ولا نريد مقعدا في حافلة التحول، بل نمسك بمقودها ونحدد الطريق ونوجه البوصلة نحو ميثاق جديد للاقتصاد الرقمي الشامل.
لقد آن الأوان لصياغة ميثاق اقتصادي رقمي عربي يعترف بالمرأة ليس كمكون، بل كمحرك.
ميثاق تبنى فيه السياسات، وتصمم فيه المنصات، وتدار فيه البيانات، بمنظور شمولي لا يقصي نصف الطاقات.
نحن بحاجة إلى هندسة رقمية تراعي تنوع العقول، وتمنح الإناث والذكور المساحات ذاتها للتأثير والبناء. فالمستقبل لا يكتب بلغة الكود فقط، بل بلغة العدالة.
ولأننا نعيش في عصر تشكله الخوارزميات، فإن غياب المرأة عن هندسته هو غياب للرؤية الكاملة، وهو خطر لا يهدد التوازن الاجتماعي فحسب، بل نوعية الابتكار ذاته؛ الابتكار الذي لا يحمل توقيع كل من يملك القدرة على التفكير، هو ابتكار ناقص، مؤقت وأحادي الرؤية.
ولذلك، فإن الرهان الحقيقي ليس على عدد النساء في مجال التقنية، بل على مدى قدرتنا على بناء بيئة تجعل من مشاركة المرأة أمرا بديهيا، لا استثناء يحتفل به، أو يعلق على لافتات المؤتمرات.
في هذا التحول العميق الذي يشهده العالم، تظل المرأة ليست فقط ضرورة أخلاقية في معادلة العدالة، بل ضرورة استراتيجية في معادلة البقاء.
فالعوالم الذكية التي نطمح إليها لا تحتاج إلى نساء يتبعن، بل نساء يغيرن، يقرأن الواقع، ويعدن برمجته.
وحين نفهم أن المرأة ليست قوة صامتة، بل مستودع رؤى، ومختبر حلول، ومصدر للابتكار الأخلاقي في عصر التحولات الرقمية، نكون قد بدأنا فعلا في التحول من عصر التكنولوجيا إلى عصر الإنسان أو ما يسمى بأنسنة الذكاء الاصطناعي، وهذا هو التحدي الحقيقي.