الغد
في لحظة فارقة تعكس عمق التحولات في النظام الدولي، افتتحت، أول من أمس، في جوهانسبرغ/جنوب أفريقيا، قمة مجموعة العشرين، وسط غياب الولايات المتحدة بعد قرارها مقاطعة القمة، بذريعة اتهامات غير مثبتة ضد حكومة جنوب أفريقيا تتعلق بالتمييز ضد المزارعين البيض.
هذا الغياب لم يكن مجرد موقف بروتوكولي، بل أصبح عنواناً لصراع عالمي محتدم حول اتجاهات التنمية والاقتصاد، ولحظة تكشف عن اتساع الشرخ بين مقاربات دول الشمال ومطالب الجنوب العالمي.
من منظور دول الجنوب، تمثل هذه القمة فرصة تاريخية لإعادة صياغة قواعد الحكم الاقتصادي العالمي، بعدما أظهرت المسارات الحالية فشلاً واضحاً في معالجة أزمات الديون والمناخ والتنمية غير المتكافئة وتعمق التفاوت الاجتماعي والاقتصادي.
وفي هذا السياق، وضعت جنوب أفريقيا، بصفتها الدولة المضيفة، برنامجاً يقوم على أربعة محاور أساسية تتمثل في مضاعفة التمويل المخصص لمواجهة الكوارث المناخية، تخفيف أعباء الديون على الدول النامية، تسريع التحول الطاقي العادل، وضمان استفادة أفريقيا من ثرواتها الحيوية، ولا سيما المعادن الاستراتيجية التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي.
هذه الرؤية تجسد المبادئ التي أكدها الرئيس الجنوب أفريقي في كلمته الافتتاحية؛ حيث شدد بشكل مباشر وغير مباشر على حق الجنوب العالمي في تطوير نماذج تنموية مستقلة، وعلى ضرورة الدفع نحو إصلاح مؤسسات التمويل الدولية بحيث تلعب أدوارا تنموية أكثر عدالة، وأنّ العالم لا يمكن أن يتجاهل تداعيات التغيرات المناخية.
وتسلحت دولة جنوب أفريقيا بالتحليل العميق والتوصيات التي قدمتها اللجة الاقتصادية الرفيعة برئاسة واحد من أهم الاقتصاديين في الوقت الحالي "جوزيف ستيغلتز"؛ حيث دعت إلى إعادة هيكلة جذرية للديون السيادية، وإنشاء آليات تمويل مبتكرة لدعم الاقتصادات الهشة، وإصلاح النظام الضريبي العالمي بما يحد من تهرب الشركات العملاقة ويضمن عدالة توزيع الثروة. كما أكدت اللجنة، في تقريرها، ضرورة تجاوز "هندسة التمويل القائم على الشروط القاسية" التي أثبتت فشلها في دفع مسار التنمية، داعية إلى نموذج تنموي يركز على الاستثمار في الصحة والتعليم والبنية التحتية الخضراء.
لكن هذه التوجهات اصطدمت مباشرة بالموقف الأميركي. فإضافة إلى المقاطعة السياسية، التي تزامنت مع استمرار الخلافات بين البلدين حول المناخ، وإعادة هيكلة الديون، وقواعد الحوكمة الاقتصادية، فضلاً عن توتر سياسي أعمق سببه شكوى الإبادة الجماعية التي قدمتها جنوب أفريقيا ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية.
غياب الولايات المتحدة ترك فراغاً حاولت قوى أخرى تعويضه؛ حيث اتخذ الاتحاد الأوروبي موقفاً أكثر صرامة تجاه المناخ، والصين دفعت باتجاه تقديم نفسها كحليف للجنوب العالمي، فيما تحركت الهند والبرازيل لتعزيز الدعوات لإصلاح المؤسسات المالية متعددة الأطراف. وعلى الرغم من الضغوط الأميركية لمنع صدور بيان نهائي، فإن الدول المشاركة تمكنت من صياغة مسودة إعلان طموح يتضمن التزامات واضحة بالطاقة المتجددة وعدالة التمويل المناخي.
ورغم كل هذه التطورات، فإن مقاطعة الولايات المتحدة التي تتحضر لرئاسة قمة مجموعة العشرين المقبلة، تكشف عن لحظة فارقة، فالعالم يتغير، ومنظومة القوة تتصدع، والدول النامية باتت أكثر استعداداً للدفاع عن مصالحها وصياغة مسار تنموي جديد لا يخضع لهيمنة قوة واحدة.