الغد-د. حمزة العكاليك
لم يعد تحليل البيانات مجرد أداة لإلقاء نظرة متأخرة على الأحداث الماضية، بل أصبح اليوم العمود الفقري الذي يشكل المستقبل الإستراتيجي للمؤسسات. فلقد كان هذا المجال تاريخيا حصرا على الخبراء ذوي الخلفيات المعمقة في البرمجة والمنطق الإحصائي، لكن دخول الذكاء الاصطناعي (AI) لم يغير الأدوات فحسب، بل ألغى مفهوم الزمن الفاصل بين المعلومة والقرار. أمام هذا التحول الجذري، تبرز فرصة استثنائية لمن يتبنى الحوكمة قبل التقنية، ومخاطرة إستراتيجية لمن يكتفي بالترقب. إن حجم السوق العالمي لتحليل البيانات المدعوم بالذكاء الاصطناعي يُعد شاهدا قاطعا على هذا التحول، حيث من المتوقع أن يرتفع إلى حوالي 310.97 مليار دولار بحلول عام 2034. فهذا النمو الهائل يؤكد أننا لم نعد نتحدث عن مجرد تحسين، بل عن شرط للوجود والمنافسة في السوق الحديث.
التحول الأبرز الذي أحدثه الذكاء الاصطناعي هو القفز بسرعة اتخاذ القرار من مستوى الأسابيع إلى مستوى الدقائق. فتقليدياً، كانت مهام التدقيق والتحليل المعقدة تستغرق أياما أو أسابيع لاكتشاف الأنماط والشذوذات، لكن أدوات الذكاء الاصطناعي أصبحت قادرة على إنجاز المهام ذاتها في دقائق معدودة. هذا التحول ليس مجرد توفير للوقت، بل هو تحرير للخبرات البشرية للتركيز على القيمة المعرفية العليا بدلا من الأعمال الروتينية، إذ تشير التقديرات إلى أن منصات البيانات المدعومة بالذكاء الاصطناعي يمكن أن تقلل زمن إعداد التقارير بنسبة تتراوح بين 50 % و70 %.
والأمثلة العملية تدعم هذه الرؤية الاقتصادية. فقد استخدمت شركات عملاقة، مثل ماجد الفطيم للتجزئة، خدمات متقدمة مثل Azure OpenAI لمركز بياناتها وأتمتة التقارير التنفيذية. وكان الأثر مباشرا وملموسا: حيث تم خفض زمن معالجة وتحليل طلبات العملاء من سبعة أيام إلى ثلاث ساعات فقط، مما أدى إلى توفير سنوي بلغ مليون دولار أميركي. هذه السرعة لم تعد رفاهية، بل أصبحت مقياساً للبقاء في بيئة أعمال تنافسية تتحرك بدقة لحظية.
لكن الذكاء الاصطناعي لم يتوقف عند تسريع التحليل، بل أعاد تعريف وظيفته بالكامل. فبدلا من طرح أسئلة من قبيل ماذا حدث؟ أو لماذا حدث؟، بات قادراً على الإجابة عن ماذا سيحدث؟ وما الذي يجب أن نفعله الآن؟ هذه النقلة من التحليل الوصفي إلى التنبؤي والتوصيفي غيّرت قواعد اللعبة في قطاعات كثيرة. فالمصانع تستخدم خوارزميات التنبؤ لاكتشاف الأعطال قبل وقوعها، ما يقلل وقت التوقف بنسبة 30 %. فشركات مثل يونيليفر تراقب سلاسل الإمداد عبر 20 برج تحكم ذكي لضمان توافر المنتجات وتقليل الهدر. حتى شركات الطيران باتت تستخدم التحليل التوصيفي لتعديل الأسعار لحظياً وفق الطلب وسلوك المنافسين، ما يرفع الإيرادات ويُبقيها في موقع الريادة. كما أدى ظهور نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) إلى خفض الحاجز التقني أمام التحليل بشكل كبير، ليصبح استخلاص القيمة من البيانات ممكناً دون الحاجة لخلفية عميقة في البرمجة.
ورغم هذه الإمكانات الهائلة، تكشف دراسة صادرة عن MIT أن 95 % من مبادرات الذكاء الاصطناعي المؤسسية تفشل في تحقيق العائد المتوقع. والسبب لا يعود للتقنية ذاتها، بل لغياب الأسس الصحيحة للحوكمة والثقافة الرقمية داخل المؤسسات. التكنولوجيا وحدها لا تصنع الفرق، بل طريقة إدارتها. ففي عام 2025، أبلغت 72% من شركات S&P 500 عن مخاطر مادية تتعلق بالذكاء الاصطناعي، من أبرزها السمعة والأمن السيبراني والامتثال التنظيمي. هذه الأرقام تذكير واضح بأن الابتكار بلا حوكمة قد يتحول من ميزة إلى خطر استراتيجي.
لهذا، برز مفهوم أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في التصميم (AI Ethics by Design) كأحد أعمدة التحول الرقمي المسؤول. فالمؤسسات التي تدمج الشفافية والتفسيرية في كل مرحلة من مراحل تطوير النماذج هي التي تكسب الثقة وتضمن الامتثال. ففي القطاع المالي مثلاً، تستخدم المؤسسات أدوات مثل SHAP لتفسير قرارات الائتمان وضمان العدالة والوضوح أمام الجهات الرقابية والعملاء. فحين يتحول الذكاء الاصطناعي من صندوق أسود إلى منظومة شفافة يمكن فهمها، ويصبح شريكاً موثوقاً لا بديلاً عن الإنسان.
إن الذكاء الاصطناعي لم يطوّر طريقة تحليل البيانات فحسب، بل أعاد تعريف معنى القيادة في العصر الرقمي. فالمؤسسات التي تنجح اليوم ليست تلك التي تملك أكبر قدر من البيانات، بل التي تمتلك القدرة على تحويلها إلى قرارات ذكية وسريعة ومسؤولة في الوقت ذاته. فبينما يسابق العالم نحو الابتكار، يبقى التحدي الحقيقي في تحقيق التوازن بين السرعة والحوكمة، وبين الذكاء والمسؤولية.
لقد غيّر الذكاء الاصطناعي مشهد تحليل البيانات إلى الأبد، فألغى الزمن الفاصل بين جمع البيانات واتخاذ القرار، وحول التحليل من مجرد وظيفة داعمة إلى عمود فقري إستراتيجي يحدد القادة من التابعين. ولم يعد الهدف تفسير ما حدث، بل وصف ما يجب أن يحدث لضمان الميزة التنافسية. فالمستقبل للمؤسسات التي تستطيع أن تكون سريعة وذكية ومسؤولة في آن واحد. فالاستثمار في الحوكمة والبنية التحتية والتحول الثقافي هو شرط لا يقبل التأجيل. فمن الواجب أن لا ندع ميزة السرعة تتحول إلى خسارة إستراتيجية بسبب غياب الحوكمة.