أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    06-Nov-2017

الاقتــصــاد السلوكــــي *د. جواد العناني

 الدستور-مخاطبة الرأي العام والسعي للفوز بتأييده، هو إشكالية تواجهها كثير من حكومات العالم، وتجد شخصاً يتكلم بكل إخلاص وأمانة في موضوع ما، فإذا به يتعرض للنقد الشديد، والمساءلة، وحتى للهجوم الشخصي اللاذع، والذي لا يمت بصلة لما قصد قوله. ولذلك صار الفرق بين ما يقصده المسؤول بتصريحاته وما يفهمه الناس منها أو انطباعهم عنها كبيراً. وينتقد الناس ما فهموا أنه المقصود، وليس بالضرورة المقصود.

ولقد فاز بجائزة نوبل في الاقتصاد هذا العام (2017) اقتصادي أمريكي يدرس في جامعة شيكاغو، ويشهد له الجميع بالذكاء الخارق، وقد ساهم وزملاء آخرون معه في تطوير فرع جديد من العلوم الاقتصادية أطلق عليه اسم «الاقتصاد السلوكي». واسم هذا الشخص هو «ريتشارد ثالر».
وقد بنى الاقتصاديون الكلاسيكيون، والذين أسسوا لعلم الاقتصاد المعاصر، نظرياتهم على عدة فرضيات، وهي في غالبيتها فرضيات منطقية أو فرضيات سلوكية. ولعل واحدة من أهم الفرضيات هي الزعم بأن الانسان يتخذ قراراته الاقتصادية في الشراء أو في البيع على اساس عاقل رشيد؛ فالإنسان يسعى دائماً لتعظيم مردوده وتقليل تكاليفه. ولذلك، فإن الاقتصاد كله يتحرك دائماً وفقاً لسلوكيات رشيدة تمليها الحقائق. 
وقد بدأ عدد من الاقتصاديين بتمحيص هذه الفرضيات واحدة بعد أخرى، خاصة بعد انفجار ازمة الكساد الاقتصادي في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، والتي استمرت لعشر سنوات لم ينقذ العالم منها سوى أفكار جون كينز والحرب العالمية الثانية. ولقد رفض كينز مقولة أن العرض والطلب يتحركان بحرية سواء من حيث الأسعار او من حيث الكميات؛ ففي سوق العمل، فإن النقابات العمالية لا تسمح بهبوط الأجور بحرّية. اما في سوق النقد فإن اسعار الفائدة  لا تسير باليسر الذي تخيله علماء الاقتصاد الكلاسيكيون استجابة مع التغير في اسعار الفائدة.
وبعد ذلك، اعتقد الاقتصاديون، وعلى رأسهم «جون ناش» الاستاذ العبقري والذي أسس نظرية «اللعبة»، ونفى فيها أن تكون معرفة المستهلك مثل معرفة المنتج أو البائع، كما افترض مؤسسو النظرية الرأسمالية.
ومؤخراً بيّن «ريتشارد ثالر» أن الافتراض بأن الأفراد يسلكون سلوكاً اقتصادياً رشيداً ليس بالأمر الصحيح دائماً. ولو كان الأمر كذلك، لتشابهت السلع، وتساوت أسعار السلع والخدمات المتشابهة. وقد تبين من الدراسات والمسوحات الاقتصادية المختلفة أن الافراد لا يسلكون الطريق الصحيح الذي يخدمهم، ولو تطبيقاً للآية الكريمة التي تصف عباد الرحمن في سورة الفرقان «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا، ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً».
والأدلة على سوء السلوك الاقتصادي السائدة على سبيل المثال في الأردن هي أن يقوم موظف بإقامة حفل غذاء مكلف لأحد المسؤولين لكي يقول إن هذا المسؤول قبِل دعوته وزاره في بيته أو لعل المضيف يستفيد في المستقبل من معرفة هذا المسؤول، وكذلك إسراف بعض الناس في بيوتهم وسياراتهم فيشترون منها ما يفوق طاقتهم وموازناتهم الحاضرة والمتوقعة، ورفض بعض الأشخاص لوظيفة يعتقد أنه يستحق أحسن منها في وقت لا يعلم أين هي تلك الوظيفة، ولا متى ستأتي، علماً أنه مفلس وبحاجة ماسة للدخل، وقس على ذلك.
لقد أثبت ريتشارد ثالر في كتبه وبحوثه المختلفة أن الإنسان قد يختار البديل الأسهل والأقرب إلى فهمه أو الذي لا يتطلب منه جهداً علماً أنه بديل مكلف. ولو عرضت على الناس بدائل للضمان الاجتماعي على سبيل المثال، بعضها صعب ومربح، وأخرى سهلة الفهم وإجراءاتها بسيطة ولكنها لا تعطي مردوداً جيداً، فالأرجح أن عدداً كبيراً من الناس سوف يختار الأسهل.
    ولقد أثرت أبحاث «ريتشارد ثالر» وزملائه من خلال علم «السلوك الاقتصادي» على علم الاقتصاد وفرضياته ولو أنهم واجهوا في البداية رفضاً ونقداً وتقليلاً من قبل الاقتصاديين المعروفين لأن «ثالر» وزملاءه خرجوا عن المألوف المريح لهؤلاء الاقتصاديين.
والسياسي الذي يتقدم بفكرة جديدة، يجب أن يكون حريصاً في عرضها على الرأي العام بحيث لا يستفزه، أو يخيفه من أثارها، أو يطلب من المواطن التخلي عن الموقع الذي يجد فيه راحته.
وقد استفاد بعض المسؤولين من هذه النظرية في عرض أفكارهم بأسلوب «النخزة» البسيطة بدلاً من ضربهم بالكوع في جانبهم. فبدلاً من أن تقول إن على كل مواطن أن يقوم بتعبئة استمارة الضريبة السنوية، يمكن أن تقول إن المواطن الذي يقدم استمارة ضريبية سوف تقبل منه، أما الذي لا يقدم فسوف تقوم الدائرة بتقدير دخله نيابة عنه.
وكذلك، يمكن ألا تقول للناس إنهم يعانون من البطالة المقننة، وأن كثيراً منهم لا يقدم أية فائدة، فإن الحكومة تطلب من كل دائرة أن تعيد تنظيم نفسها لكي تقلل من عدد التواقيع المطلوبة من خمسة تواقيع إلى ثلاثة. وإن لم تفعل خلال شهرين، فسوف تقوم وزارة تطوير القطاع العام بعمل هذا الأمر نيابة عنها. 
وبدلاً من أن تطلب من الدوائر والوزارات إعداد موازناتها، فتقوم هذه الدوائر استباقاً لتنقيص الموازنة بالمبالغة في تقديراتها، بأن تقول ان كل دائرة مسموح لها زيادة انفاقها الكلي هذا العام بنسبة (2%) . ومن يفعل ذلك تقبل موازنته، ومن لا يفعل فسوف يترك لدائرة الموازنة واللجنة الوزارية المختصة إجراء ما تراه على الموازنة لتبقى الزيادة فيها ضمن 2% على حد أقصى.
هنالك فجوة في اللغة بين الحكومة والناس تجعل الناس يرفضون ما تقوله الحكومة، ولكن إذا صيغ القرار نفسه بلغة مقبولة ومطمئنة يصبح القبول به أكثر يسراً.
هذا واقع اقتصادات الدول الغنية حيث التعليم والوعي أعلى من الدول النامية. وإذا صح هذا الأمر على الدول الغنية، فالأرجح أنه أكثر صوابية في حالة الدول النامية.