الطبقة الوسطى تفقد حضورها وسط أزمات اقتصادية متتالية.. ما الحل؟
الغد-عبد الرحمن الخوالدة
في قلب أي اقتصاد مستقر تشكل الطبقة الوسطى صمام أمان رئيسي يقيه الانحدار نحو الأسفل، لكن في الأردن بدأت هذه الطبقة التي طالما كانت فاعلة في العملية الاقتصادية تفقد حضورها وسط أزمات اقتصادية متتالية وزيادة الأعباء المعيشية.
ومنذ أكثر من عقد، تعاني الطبقة الوسطى في الاردن من التآكل المستمر، نتيجة تراكم سياسات اقتصادية لم تراع بنيتها ودورها وسط غياب أي إستراتيجية وطنية لإعادة بنائها أو حتى وقف تدهورها، بحسب خبراء إقتصاديين.
تعريف الطبقة الوسطى
يعرف الخبراء الطبقة الوسطى بأنها الفئة الاجتماعية التي تقع بين الطبقتين الفقيرة والثرية، وتتميز بقدرة معقولة على الإنفاق، والتعليم، وتملك أنماط استهلاك مستدامة، وتؤدي دورا محوريا في الإستقرار السياسي والاقتصادي من خلال مساهمتها في الطلب المحلي، وسوق العمل، والإنتاج.
في السياق الأردني، تشمل الطبقة الوسطى غالبا موظفي القطاع العام، والمعلمين، وصغار التجار، والحرفيين، وأصحاب المشاريع الصغيرة، لكنها باتت مهددة بالتآكل نتيجة تراجع قدرتها الشرائية وغياب الأمان الوظيفي وتآكل الدخل.
تآكل متسارع.. وخطر اجتماعي
ويجمع الخبراء على أن الطبقة الوسطى في الأردن لم تعد تقف على حافة الخطر، بل بدأت بالفعل تفقد توازنها، مع تفاقم التضخم، وارتفاع كلف المعيشة، وتجمد الأجور، وانتشار الوظائف غير المستقرة.
ويؤكد هؤلاء الخبراء أن استمرار هذه الحالة يُهدد الاستقرار المجتمعي، ويضرب العمق الاقتصادي للدولة، ويؤدي إلى فجوة متزايدة بين الطبقات، من شأنها أن تضعف الثقة في السياسات العامة وتوسع دائرة الهشاشة الاجتماعية.
السياسات الضريبية وتآكل الأجور
قال مدير مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والاجتماعية أحمد عوض إن "الطبقة الوسطى في الأردن تشهد تراجعا واضحا خلال السنوات الأخيرة، في ظل غياب بيانات رسمية محدثة حول معدلات الدخل والإنفاق" مشيرا إلى أن آخر مسح شامل أجرته الجهات الرسمية يعود إلى ما يقارب عشر سنوات، وهو ما يضعف القدرة على قياس التحولات الاجتماعية والاقتصادية بدقة.
وأوضح عوض أن المؤشرات الاجتماعية وحركة السوق تشير بوضوح إلى انكماش هذه الطبقة، خاصة في ظل استمرار معدلات البطالة فوق حاجز الـ20 %، وتفاوت تقديرات نسب الفقر بين 24 % و35 %، ما أدى إلى انحدار كثير من الأسر من الطبقة الوسطى إلى الطبقات الفقيرة أو الهشة، بما في ذلك الموظفون الحكوميون الذين أصبحوا يعتمدون على مصادر دخل إضافية لمواجهة الأعباء المعيشية المتزايدة.
وبين عوض أن ثبات الأجور مقابل تصاعد كلف المعيشة والتضخم هو من أبرز الأسباب التي تقف خلف هذا التآكل، إلى جانب تداعيات الأزمات الإقليمية والدولية، وخيارات السياسات الاقتصادية المتبعة، خصوصا تلك المتعلقة بإعادة الهيكلة وتقليص الحماية الاجتماعية، والاستمرار في فرض ضرائب غير مباشرة كضريبة المبيعات والضرائب المقطوعة على المشتقات النفطية.
وأكد أن حماية الطبقة الوسطى تتطلب إصلاحا ضريبيا يعيد التوازن والعدالة إلى النظام المالي، من خلال تطبيق ضريبة تصاعدية تخفف العبء عن الاستهلاك، إلى جانب ضرورة مراجعة سياسات الأجور تدريجيا وربطها بمعدلات التضخم، وتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية لتشمل فئات أوسع.
كما شدد عوض على أن الطبقة الوسطى تُعدّ ركيزة أساسية في أي اقتصاد مستقر، لدورها الحيوي في تحفيز الاستهلاك والإنتاج وتحقيق التوازن الاجتماعي، مشيرا إلى أن استقرار هذه الطبقة لا ينعكس فقط على الجانب الاقتصادي، بل يمتد ليشكل عنصرا حاسما في الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
وختم عوض حديثه بالتأكيد على ضرورة إجراء مسوحات دورية من قبل دائرة الإحصاءات العامة، لتوفير بيانات دقيقة تساعد الباحثين وصناع القرار في بناء سياسات تنموية عادلة ومستدامة، محذرًا من أن غياب الإصلاحات الجذرية سيبقي تآكل الطبقة الوسطى تهديدا حقيقيا للاستقرار الوطني.
خطة وطنية لإعادة بناء الطبقة الوسطى
من جانبه، أكد الخبير الاقتصادي وجدي المخامرة أن الطبقة الوسطى تمثل العماد الحقيقي للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في أي دولة، إلا أن حجمها ودورها في الأردن تراجعا خلال السنوات الماضية نتيجة جملة من التحديات الاقتصادية والسياسية المتراكمة.
وأشار المخامرة في حديثه إلى أن إعادة بناء الطبقة الوسطى في الأردن يتطلب خطة وطنية متكاملة، ترتكز أولا على إصلاح النظام الضريبي، من خلال تبنّي نظام تصاعدي عادل يخفف العبء عن الأسر متوسطة الدخل، إلى جانب مكافحة التهرب الضريبي المستشري.
وأوضح أن دعم الشرائح الاقتصادية الضعيفة من خلال منح نقدية مباشرة، وتشجيع الاستثمار في القطاعات الإنتاجية كالتصنيع والتكنولوجيا والطاقة المتجددة، من شأنه إيجاد وظائف نوعية ذات أجور تنافسية كما شدّد على ضرورة تعزيز ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة والمتوسطة عبر تمويل ميسر وبرامج تدريبية فعالة.
وللحد من كلفة المعيشة المتصاعدة، أشار إلى أهمية مراقبة أسعار السلع الأساسية، وتطوير برامج إسكان اجتماعي تقلل عبء الإيجارات أو تمكّن الأسر من تملك مساكن، إلى جانب توسيع نطاق التأمين الصحي وتأمين الشيخوخة ليشمل العمالة غير الرسمية.
وبشأن سبل تعزيزها، شدد على ضرورة تمكين المرأة اقتصاديا عبر توفير حضانات وفرص عمل مرنة، ودعم القطاع الخاص من خلال إصلاح البيروقراطية ومحاربة الفساد، بالإضافة إلى الاستثمار في الاقتصاد الأخضر والطاقة النظيفة والزراعة المستدامة.
وفيما يتعلق بالتحديات التي واجهت هذه الطبقة خلال السنوات الأخيرة، أوضح المخامرة أن الركود الاقتصادي وارتفاع الأسعار وتباطؤ النمو (الذي بلغ أقل من 3% في بعض السنوات)، إضافة إلى التضخم وزيادة أسعار الطاقة والإيجارات، جميعها عوامل عمّقت تآكل هذه الطبقة.
كما أشار إلى معدلات البطالة المرتفعة، خاصة بين الشباب والخريجين، وهيمنة القطاع غير الرسمي على سوق العمل، فضلًا عن تراجع دور القطاع العام بفعل السياسات التقشفية، واستمرار فجوة المهارات بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق.
ولم يغفل المخامرة عن الإشارة إلى تأثير الضغوط الديموغرافية الناجمة عن اللجوء السوري، وتنامي الفساد وضعف الشفافية في توزيع الفرص الاقتصادية، مما جعل شريحة واسعة من المواطنين خارج دائرة العدالة الاجتماعية.
فجوة دخل مقلقة وطبقة تفقد حضورها
بدوره ، يرى الخبير الاقتصادي حسام عايش أن الطبقة الوسطى في الأردن تشهد منذ أكثر من عقدين تراجعا متواصلا في حجمها وتأثيرها داخل المشهد الاقتصادي، مشيرا إلى أن وتيرة هذا التراجع تسارعت بشكل لافت بعد جائحة كورونا وما تبعها من أزمات إقليمية ودولية، خاصة الموجة التضخمية العالمية، التي دفعت آلاف الأسر الأردنية إلى الخروج من دائرة الطبقة الوسطى.
وأوضح عايش أن الفجوة بين الدخل والإنفاق في أغلب الأسر الأردنية في اتساع مستمر، نتيجة جمود الأجور مقابل الارتفاع المتواصل في أسعار السلع والخدمات، وهو ما أدى إلى تآكل القدرة الشرائية للطبقة الوسطى وأثقل كاهلها.
ولفت إلى أن الحكومات المتعاقبة لم تستجب لهذه التحولات عبر سياسات فعالة أو مراجعات للأجور، ما فاقم الأزمة وأضعف القوة الشرائية والاستهلاكية لهذه الطبقة الحيوية.
وأشار عايش إلى أن الطبقة الوسطى لطالما كانت فاعلا اقتصاديا رئيسيا في الداخل الأردني، إذ لعبت دورا محوريا في تحريك عجلة الاستهلاك المحلي والمساهمة في استقرار المجتمع، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، بل كذلك على الصعيدين الاجتماعي والأمني، ما يجعل إعادة تمكينها أولوية وطنية عاجلة.
ولإعادة بناء هذه الطبقة وتعزيز حضورها، دعا عايش إلى تطوير التشريعات الاقتصادية ذات الصلة، وتقديم حوافز مباشرة للأسر متوسطة الدخل، مثل تخصيص أراضٍ سكنية وتسهيل الوصول إلى التمويل، إلى جانب إعادة هيكلة النظام الضريبي نحو عدالة تصاعدية، بحيث يتم تحميل أصحاب الدخول والثروات العالية العبء الضريبي الأكبر، بدلًا من الاستمرار في إخضاع الطبقة الوسطى لضرائب تثقلها وتزيد من هشاشتها.
وشدد عايش على أن تحقيق العدالة الضريبية ليس فقط ضرورة اقتصادية بل شرط أساسي لوقف تآكل الطبقة الوسطى، داعيا إلى مراجعة السياسات المالية العامة بطريقة شاملة، ترتكز إلى توزيع أكثر إنصافًا للأعباء والفرص.