أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    03-Aug-2025

الأردن يكتب تاريخه الرقمي بلغة التوكن وسيادة المستقبل

  الغد

د. مروة بنت سلمان آل صلاح
 
في عالم يتغير بسرعة كبيرة، لم تعد التكنولوجيا خيارا ثانويا للتنمية، بل أصبحت شرطا أساسيا لتبقى الدول في قلب الاقتصاد العالمي. الأردن أدرك هذه الحقيقة مبكرا، لكنه لم يندفع وراء الشعارات الرقمية بشكل عشوائي، بل اختار أن يبني مساره الوطني بخطوات مدروسة تحترم هويته الوطنية وتضع التنمية في إطار سيادي، قبل أن تكون مجرد تقنية جديدة.
 
 
التحول الرقمي في الأردن لم يكن مجرد قرار صادر من القمة أو إجراء بيروقراطي، بل جاء نتيجة تراكم طويل من الخطوات الإستراتيجية التي بدأت بوضع قوانين واضحة وعادلة، مرورا بتحديث أساليب الإدارة، وانتهاء بفكر اقتصادي جديد يرى التكنولوجيا كأداة لتحقيق العدالة، وزيادة الكفاءة، وحماية البيانات والمعلومات. لم تكن الرقمنة مجرد تحويل خدمات ورقية إلى إلكترونية، بل كانت بداية لمشروع وطني شامل لبناء ثقة بين المواطن والدولة في نظام رقمي وطني يحمي الحقوق، ويساعد على النمو، ويسمح للأردن بالمنافسة عالميا دون أن يتنازل عن قيمه وثوابته.
ومن أهم أسباب نجاح أي تحول رقمي هو بناء الثقة، ولذا كانت القوانين مثل قانون حماية البيانات الشخصية وقانون المعاملات الإلكترونية من أهم الخطوات التي قامت بها الدولة الأردنية مبكرا. هذه القوانين وضعت أرضية واضحة تضمن حماية المواطن والمستثمر على حد سواء، مما جعل الفضاء الرقمي في الأردن بيئة آمنة ومنظمة وليست مجرد فضاء مفتوح وعشوائي.
وسط هذا التطور بدأ مصطلح "التوكن" يدخل في الخطاب الرقمي، لكنه لم يكن مجرد كلمة تقنية، بل مفهوم جديد يعيد النظر في معنى القيمة الاقتصادية والاجتماعية. فالتوكن ليس فقط أصلا رقميا أو وحدة مشفرة، بل يعبر عن رؤية جديدة للقيمة تتجاوز المال لتشمل الملكية، الهوية، والثقة. الأردن يمتلك الأسس المناسبة لهذا التحول لأنه بنى بيئة شفافة تدمج التقنية في إطار سيادي يحمي مصالح الدولة والمجتمع.
ومن هنا، يمكن تصور مشروع توكن وطني ذكي مثل "Jordanverse Token"، لا يكون عملة بديلة عن المال، بل وسيلة جديدة للتعامل مع الخدمات الحكومية والرقمية. يمكن للمواطن أن يستخدم هذا التوكن لدفع رسوم الخدمات، أو الدخول إلى تجارب سياحية رقمية في المتاحف الافتراضية، أو الحصول على مكافآت عند التفاعل مع منصات التعليم والصحة والضرائب. كما يمكن للتوكن أن يكون أداة دعم وتمويل مباشرة للمشاريع الصغيرة والشركات الناشئة، تحت رقابة الدولة التي تضمن الشفافية والعدالة الرقمية.
أما من الناحية الاجتماعية، فإن التوكن يفتح فرصا جديدة تعيد توزيع الثقة بين الدولة والمواطن، حيث يصبح لكل فرد أداة تفاعلية تتيح له المشاركة الفعلية في صنع القرار الاقتصادي. كما يتيح التوكن للذين كانوا خارج الاقتصاد الرسمي فرصة الدخول في منظومة إنتاج رقمية عادلة. ثقافيا، تسمح التوكنات غير القابلة للاستبدال (NFT) للأردن بحفظ تراثه وتاريخه بصورة رقمية، مما يعطي الرموز الثقافية قيمة مادية ومعنوية، ويحول الحرف والفنون والموسيقا إلى محتوى اقتصادي متجدد يمكن تداوله عالميا. وهذا ليس مجرد استخدام تقنية، بل طريقة جديدة للحفاظ على الهوية في عصر تتغير فيه القيم بسرعة.
ولا يمكن لهذا التحول أن ينجح بدون دور حيوي للبنوك والقطاع المالي، الذين يشكلون العمود الفقري للحركة الاقتصادية. على البنوك أن تتجاوز دور الوسيط التقليدي، لتصبح منصات رقمية تقدم خدمات مثل المحافظ الذكية، والتقييم الائتماني الرقمي، وأنظمة التحقق المبنية على البلوكشين. البنوك الأردنية تملك الكفاءات والبنية التحتية التي تؤهلها لتبني التوكن كوسيلة لدعم السيولة وتمويل المشاريع الصغيرة، خصوصا في المناطق التي تفتقر إلى الخدمات المالية التقليدية. وبهذا تتحول البنوك من مؤسسات تقليدية إلى شركاء فاعلين في التحول الوطني.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون للجامعات والبحث العلمي دور أساسي في هذا المشروع. فمراكز الأبحاث الأردنية تمتلك الخبرات والأدوات التي تسمح بإنشاء مختبرات رقمية تدرس التوكن كمفهوم اقتصادي تطبيقي يمكن قياسه وتحسينه. يمكن للطلاب تصميم عقود ذكية أو تطبيقات تساعد في مجالات مثل الصحة والتعليم أو إدارة المشاريع الصغيرة ضمن بيئة آمنة ولامركزية. في هذه الحالة، يتحول الطالب من متلقي للمعرفة إلى مشارك في صنعها، ومن مستخدم للتقنية إلى مبدع يعيد تشكيلها بما يناسب الواقع المحلي.
قد يعتقد آخرون أن التوكن يعني اللامركزية المطلقة، لكن الأردن اتخذ طريقا وسطا يوازن بين فوائد التكنولوجيا والسيادة الوطنية. فالتقنيات مثل البلوكشين تتيح درجة عالية من اللامركزية، لكن القرار والسيادة يبقيان محكومين بحوكمة وطنية قوية. الذكاء الحقيقي يكمن في استخدام هذه التقنيات بطريقة تحقق حماية حقوق الأفراد مع الحفاظ على مصلحة الدولة العليا.
ظل الخطاب التكنولوجي في الأردن معتدلا وواقعيا، بعيدا عن المبالغات والشعارات الكبيرة، إذ ركز على بناء بنية قانونية ومؤسسية متينة تهيئ لاقتصاد رقمي ذكي، مستقر، شفاف، ومتنوع. وبينما تسوق دول أخرى للتقنية بشكل إعلامي، اشتغل الأردن بهدوء على تأسيس نظام متكامل ومستدام.
لهذا السبب، أصبح الأردن نموذجا إقليميا يحتذى به في التحول الرقمي، خاصة للدول المجاورة التي ما تزال تعمل على بناء أطرها القانونية والمؤسساتية. والمثير في الأمر أن هذا النجاح لم ينبع من ثروة فائضة، بل من إرادة قوية وفهم عميق للتحديات والفرص.
وفي الختام: التحول يبدأ حين نعيد تعريف القيمة, لقد أدرك الأردن، في صمت حكيم، أن العالم يتجه نحو عصر جديد لا تقاس فيه القوة بحجم الموارد، بل بمرونة السياسات، وشفافية البيانات، وذكاء البنية الرقمية. وفي قلب هذا التحول، يبرز التوكن لا كوسيلة مالية فحسب، بل كمفهوم شامل يعيد تعريف العلاقات الاقتصادية والاجتماعية.
حين نزرع الثقة في الأنظمة، ونعزز السيادة في التقنية، ونحفظ الحقوق في السلسلة الرقمية، نكون لا نبني اقتصادا رقميا فحسب، بل نصوغ مستقبلا مستداما بهوية وطنية رقمية، يقوده شعب واع، وتدعمه قيادة تؤمن أن التكنولوجيا ليست هدفا بل وسيلة للكرامة والعدالة والتنمية.