الدول الأكثر استثماراً في الذكاء الاصطناعي: سباق عالمي نحو المستقبل*حسام الحوراني
الدستور
في عالم يتسارع فيه التطور التكنولوجي بوتيرة غير مسبوقة، أصبح الذكاء الاصطناعي (AI) محورًا رئيسيًا في تشكيل مستقبل الاقتصادات والمجتمعات. تتنافس الدول الكبرى على الريادة في هذا المجال، مستثمرةً مبالغ ضخمة لتعزيز قدراتها التقنية وتحقيق التفوق الاستراتيجي.
تجدر الإشارة الى انني استعرض في مقالي هذا أبرز الدول التي تقود السباق العالمي في مجال الذكاء الاصطناعي، مع التذكير بأن الأرقام الواردة هي تقديرات تقريبية تعكس أحدث التقارير المتاحة حتى كتابة هذا التقرير ، وكذالك أن هذه الأرقام تتغير باستمرار ويوميا بفعل الشراكات الاستراتيجية المتسارعة بين الشركات والدول، كما أن هناك استثمارات غير معلنة أو متضاربة لم تُدرج ضمن هذا المقال.
الولايات المتحدة: ريادة مستمرة واستثمارات ضخمة
تتصدر الولايات المتحدة قائمة الدول الأكثر استثمارًا في الذكاء الاصطناعي، حيث بلغت استثماراتها الخاصة منذ عام 2013 أكثر من 500 مليار دولار، مدفوعةً بزخم غير مسبوق من شركات التكنولوجيا الكبرى مثل مايكروسوفت، جوجل، أمازون، وآبل. في عام 2023 وحده، أنفقت الشركات الأميركية أكثر من 70 مليار دولار على تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يفوق استثمارات الصين والمملكة المتحدة مجتمعة. هذا التفوق يعكس التزام أمريكا بتعزيز بيئتها الابتكارية وبنيتها التحتية المتقدمة في البحث والتطوير، والذكاء الاصطناعي التوليدي تحديدًا.
الصين: منافسة شرسة واستراتيجية وطنية شاملة
تأتي الصين في المرتبة الثانية، حيث تشير التقديرات إلى أن إجمالي استثماراتها تجاوز 200 مليار دولار منذ عام 2013، مع تركيز استراتيجي على الاكتفاء الذاتي في التقنيات الأساسية مثل أشباه الموصلات والبرمجيات. دعا الرئيس الصيني إلى جعل الذكاء الاصطناعي ركيزة قومية، وأسست الصين مناطق تطوير صناعي ذكية في مدن مثل بكين. كما تسعى الحكومة إلى التفوق عالميًا في تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الأمن، والمراقبة، والصحة.
المملكة المتحدة وكندا: مراكز ابتكار صاعدة
تحتل المملكة المتحدة المرتبة الثالثة باستثمارات تقدر بـ28 مليار دولار، تليها كندا بـ26 مليار دولار. تركز بريطانيا على دعم الشركات الناشئة في مجالات الذكاء الاصطناعي الأخلاقي، والطب، والتمويل، فيما أصبحت كندا مركزًا بحثيًا عالميًا بفضل مؤسسات مثل «Vector Institute» و»Montreal Institute for Learning Algorithms»، ما جعلها نقطة جذب للمواهب والاستثمارات.
المملكة العربية السعودية: طموح تقني واستراتيجية وطنية
برزت المملكة العربية السعودية كقوة طموحة في مشهد الذكاء الاصطناعي، حيث أعلنت باستثمارات أولية تتجاوز 15 مليار دولار وبصدد المضي قدما لاستثمار 100 مليار دولار اخرى، تهدف إلى تطوير البيئة المحلية للتكنولوجيا ، وتطوير نماذج ذكاء اصطناعي وطنية، وتعزيز المحتوى العربي الرقمي. كما أطلقت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (SDAIA) خطة وطنية تجعل الذكاء الاصطناعي محركًا اقتصاديًا أساسيًا في رؤية 2030. عبر مؤتمرات دولية وشراكات مع شركات امريكية وغيرها ، تسعى السعودية لتكون ضمن أكبر 15 دولة عالميًا في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030.
الإمارات العربية المتحدة: طموح إقليمي واستثمارات استراتيجية
استثمرت الإمارات العربية المتحدة مليارات الدولارات في الذكاء الاصطناعي وكانت من الدول السباقة في المنطقة وأطلقت صندوق للاستثمار في الذكاء الاصطناعي، بقيمة مستهدفة تصل إلى 100 مليار دولار خلال الخمس سنوات القادمة. كما أعلنت الدولة عن شراكات امريكية بارزة ومراكز بحثية كبرى، في إطار طموحها لتكون مركزًا عالميًا لتطوير وتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي، خاصة في التعليم، والطاقة، والرعاية الصحية.
كوريا الجنوبية: خطة طموحة واستثمارات ضخمة
أعلنت كوريا الجنوبية عن خطة وطنية لاستثمار نحو 9 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2027، مع تركيز على تطوير الرقائق المتقدمة وأشباه الموصلات، مما يدعم مكانتها العالمية كمركز صناعي وتقني رائد في آسيا.
الاتحاد الأوروبي: مبادرات جماعية وتحديات تنظيمية
رصد الاتحاد الأوروبي استثمارات تفوق 25 مليار يورو ضمن مبادرة «أوروبا الرقمية» لبناء منظومة ذكاء اصطناعي شاملة، تتضمن إنشاء حواسيب فائقة وقدرات روبوتية طبية وصناعية متقدمة. ومع ذلك، يواجه التكتل تحديات تنظيمية وقانونية معقدة، حيث يسعى لتوازن دقيق بين الابتكار وحماية الخصوصية، في ظل أول قانون شامل للذكاء الاصطناعي (AI Act) في العالم.
الهند: شراكات استراتيجية ونمو متسارع
استقطبت الهند استثمارات خاصة في الذكاء الاصطناعي بلغت 1.2 مليار دولار في 2024، ليرتفع إجمالي استثماراتها إلى 11 مليار دولار منذ 2013. ومن خلال شراكات مع الولايات المتحدة وشركات كبرى، تسعى الهند إلى توظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم، والزراعة، والصحة، والبنية الرقمية.
دول أخرى تقود التغيير: ابتكار نوعي وتقدم متسارع
إلى جانب القوى الاستثمارية الكبرى، تبرز مجموعة من الدول الأخرى كلاعبين مؤثرين في مشهد الذكاء الاصطناعي العالمي، إما من خلال الاستثمار النوعي، أو التقدم في البحث والتطوير، أو التطبيقات المتقدمة:
سنغافورة: تُعد من الدول الرائدة في حوكمة الذكاء الاصطناعي، حيث أطلقت استراتيجية وطنية مبكرة، وخصصت ميزانيات ذكية لتطبيق الذكاء الاصطناعي في النقل، الصحة، والأمن. كما أرست أطرًا أخلاقية تُعتبر مرجعًا عالميًا.
اليابان: تستثمر بشكل متزايد في الذكاء الاصطناعي الصناعي والروبوتات، وخاصة في تطبيقات الرعاية الصحية ومساعدة المسنين. تمتلك اليابان بنية تحتية متقدمة في الحوسبة والتصنيع، وتسعى لتعويض نقص الأيدي العاملة عبر الأتمتة المدعومة بالذكاء الاصطناعي.
أستراليا: تركز على الذكاء الاصطناعي في الزراعة الذكية، والتعدين، والتعليم. أطلقت الحكومة الأسترالية استراتيجية وطنية عام 2021 وخصصت تمويلًا لدعم الأبحاث الأكاديمية والتطبيقات الصناعية للذكاء الاصطناعي.
فرنسا: من الدول الأوروبية السبّاقة في الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، حيث خصصت أكثر من 2 مليار يورو في إطار خطة وطنية شاملة، مع تركيز خاص على الذكاء الاصطناعي الأخلاقي والسيادي.
البرازيل: تقود أمريكا اللاتينية في تطبيق الذكاء الاصطناعي في الزراعة، والصحة، وإدارة المدن الذكية، بدعم من شراكات بين القطاعين العام والخاص.
السويد والدول الإسكندنافية: تولي أهمية كبيرة لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقه في الخدمات العامة، والتعليم، والصناعة الخضراء.
رغم تباين أحجام الاستثمارات، إلا أن هذه الدول تُظهر أن الذكاء الاصطناعي ليس حكرًا على القوى الاقتصادية الكبرى، بل هو مجال مفتوح أمام الدول التي تملك الرؤية، والحوكمة، والإرادة لتكون فاعلة في صناعة المستقبل.
السباق العالمي: بين الفرص والتحديات
يشهد العالم سباقًا محمومًا نحو الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث تسعى الدول إلى تعزيز قدراتها التقنية لتحقيق التفوق الاقتصادي والاستراتيجي. وتتنوّع استراتيجياتها بين الاستثمار في البحث والتطوير، دعم الشركات الناشئة، وبناء البنية التحتية الرقمية.
لكن التحديات لا تقل تعقيدًا، وأبرزها التوازن بين الابتكار وحماية البيانات، الحاجة إلى أطر تنظيمية مرنة، والتوزيع العادل لفوائد الذكاء الاصطناعي. في هذا السياق، يصبح التعاون الدولي وتبادل الخبرات العلمية والتقنية أمرًا ضروريًا لبناء منظومة عالمية شاملة ومستدامة.
أين موقع الدول العربية في هذا السباق؟
رغم المبادرات التي أطلقتها كل من السعودية والإمارات، فإن بقية الدول العربية لا تزال بعيدة عن مراكز القيادة في الذكاء الاصطناعي. تعاني الكثير منها من نقص الاستثمارات، وغياب السياسات الوطنية الموحدة، وضعف منظومات البحث العلمي.
إن هذه الفجوة الرقمية قد تعمّق التبعية التكنولوجية وتحدّ من قدرة العالم العربي على الاستفادة من ثرواته البشرية والاقتصادية في هذا العصر الجديد.
خاتمة: نحو مستقبل مشترك لا يُقصي أحدًا
بينما تتسابق الدول نحو الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي، يبقى السؤال الأهم: كيف يمكن تحقيق توازن بين التنافس والتعاون؟ إن مستقبل الذكاء الاصطناعي لا يتعلق فقط بالأرقام أو التقنيات، بل بالقيم، والعدالة، والاستدامة.
فالعالم لا يحتاج فقط إلى دول تقود، بل إلى أمم تتشارك. ولعلّ اللحظة قد حانت للعالم العربي كي لا يكتفي بدور المتلقّي، بل يسهم في صياغة المستقبل بكفاءة وقرار.